عنوان الفتوى : حكم انتفاع الابن بمال والديه المكتسب من الحرام
كنت قد سألت فضيلتكم من قبل سؤالًا برقم: 2489244، يتعلق بحياتي مع أبي، فكل أمواله من البنوك، فأحلتموني على الفتويين: 60779، و 93265، ومنهما فهمت عدم جواز كل النقاط المذكورة في
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهنالك مسألة لا بد من التنبيه عليها، وهي أن هنالك فرقًا بين من اكتسب المال من الحرام عالمًا بحرمته متعمدًا، ومن اكتسبه جاهلًا بحرمته، أو مقلدًا لمن أفتى بجواز ذلك، كما أن بعض العلماء يفرق بين ما كان خبيثًا لكسبه، وما كان خبيثًا لعينه، قال ابن عثيمين -رحمه الله-: قال بعض العلماء: ما كان محرمًا لكسبه، فإنما إثمه على الكاسب، لا على من أخذه بطريق مباح من الكاسب، بخلاف ما كان محرمًا لعينه، كالخمر، والمغصوب، ونحوهما، وهذا القول وجيه قوي، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشتري من يهودي طعامًا لأهله، وأكل من الشاة التي أهدتها له اليهودية بخيبر، وأجاب دعوة اليهودي، ومن المعلوم أن اليهود معظمهم يأخذون الربا، ويأكلون السحت، وربما يقوي هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي تصدق به على بريرة: هو لها صدقة، ولنا منها هدية. اهـ.
وقال أيضًا: وأما الخبيث لكسبه: فمثل المأخوذ عن طريق الغش، أو عن طريق الربا، أو عن طريق الكذب، وما أشبه ذلك، وهذا محرم على مكتسبه، وليس محرمًا على غيره إذا اكتسبه منه بطريق مباح، ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل اليهود مع أنهم كانوا يأكلون السحت، ويأخذون الربا، فدل ذلك على أنه لا يحرم على غير الكاسب. اهـ.
كما اختلف العلماء أيضًا فيما استهلك فيه المال الحرام هل تتعلق حرمته بذمة مستهلكه وحائزه، لا بعين المستهلك فيه من طعام، أو سيارة، أو غيرها؟ أم تتعلق بعين المشترى، جاء في التاج والإكليل: وسئل الإمام المازري عن مستغرق الذمة بالحرام, هل تجوز معاملته؟ فقال: في ذلك خلاف، ووجه القول بالجواز أن الفقراء لم يستحقوا عين ما بيده إنما استحقوا قدره خاصة، لا عينه...
وفي المدونة: من أودعته دنانير فاشترى بها سلعة، فليس لك في السلعة شيء إنما تتبعه بدنانيرك...
وعرف عياض بعبد الجبار المشهور بالورع أنه دفع إليه جندي فرسه فركبه فنظر إليه أصحابه، فقال: ما لكم إما ورع نقص، وإما علم زاد، قال بعضهم: ولعله تصدق بقدر انتفاعه به، كما فعل ابن مجاهد، عرف به عياض أيضًا، وكان من أهل الورع قال: ذهب إلى أبي عبيد ليزوره بالزهراء قال: وكان صديقه فدعاه إلى الأكل معه فأكل، وليس له مال إلا من مال السلطان, فقيل لابن مجاهد في ذلك فقال: لو أمسكت عن طعامه لكان جفاء عليه، وقد قومت ما أكلت، وأجمعت على الصدقة به، وثواب ذلك لصاحبه, ورأيت هذا أفضل من الشهرة والجفاء على الرجل...
قال ابن رشد: ووجه هذا أن الحرام ترتب في ذمة البائع، والمهدي، فهما المأخوذان به والمسؤولان عنه, ونحو هذا هو المروي عن ابن مسعود، إذ قال: لك المهنأ، وعلى غيرك المأثم. انتهى بتصرف.
وعلى كل، فإذا كان أبوا السائل قد عملا ما عملا مقلدين لمن أفتى بجوازه فما اكتسبا منه، فلا بأس عليهما في الانتفاع به، ولينصحا بالكف عنه فيما يستقبل، وليس عليهما التخلص مما اكتسباه من قبل.
وبالنسبة للسائل فيسعه أن ينتفع بأموال والديه والحالة هذه، وقد سئل الشيخ ابن عثيمين سؤالًا جاء فيه: فضيلة الشيخ! السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته، لي أخ يعمل في أحد البنوك الربوية، قد تحدثتُ معه في هذا الأمر، ولكنه يعتمد في صحة شرعية عمله على فتوى الشيخ محمد سيد طنطاوي مفتي مصر آنذاك، وعند عودتنا إلى مصر في العطلة الصيفية فإنه يدعوني وأسرتي إلى تناول الطعام في بيته، وليس له دخل سوى مرتبه من هذا العمل، فهل لي أن ألبي الدعوة حرصًا على صلة الرحم أم لا؟ وهل يجوز إعطاؤه مبلغًا من المال على سبيل الهدية بنية أنه إذا دعاني للطعام عنده أكون بذلك قد أكلت من مالي حفاظًا على صلة الرحم؟ أفتونا -جزاكم الله خيرًا-
الجواب: أقول: إذا كان هذا الرجل صادقًا في أنه اتبع فتوى هذا العالم، وليس قصده تتبع الرخص، فليس عليه إثم أصلًا؛ لأن الله يقول: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {النحل:43} وهذا قد اقتدى بعالم، وليس عليه شيء، كما لو أن إنسانًا أكل لحم جزور وسأل عالمًا من العلماء فقال له: إن أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء، فصلى وهو آكل لحم الجزور فهل تبطل صلاته؟ لا، هذا الذي أكل الربا محتجًا بقول عالم مقلَّدٍ للفتيا، ليس قصده الهوى، واتباع الرخص لا شيء عليه، هذا من حيث عمل أخيك.
أما الذي نرى أن فتوى مفتي مصر في هذا الباب خطأ وغلط، وأنه لا فرق بين الربا الاستثماري والربا الاستغلالي، والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ إليه بتمر طيب فسأل، فقالوا: كنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: هذا عين الربا، وأمر برده، وهذا واضح أنه ليس به استغلال، وليس به ظلم، ومع ذلك حرمه النبي عليه الصلاة والسلام، فالفتوى غلط، وعلى هذا فنرى أن أخاك ما دام يعين على أكل الربا، ويكتبه، ويشهد به نرى أنه آثم، وأنه يجب عليه التخلي عنه، لكن إن أصر وبقي وذهبتَ أنت إليه وأكلت مما عنده، فلا بأس، ولا إثم عليك، حتى وإن كنت تعتقد أن هذا حرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ عنه أنه أكل من طعام اليهود، واليهود -كما تعلمون- أكالون للسحت، آخذون للربا، ولم يسأل الرسول يقول: هل تعاملتم بالربا أو لا؟ فدل ذلك على أنه يجوز للإنسان أن يأكل ممن كَسْبُه حرام، ولا إثم عليه، ولكن لا تيأس أكثر من النصيحة لأخيك -لعل الله يهديه- وبشره أنه إن تاب فله ما سلف، كل ما كسبه قبل ذلك فهو له حلال؛ لقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ {البقرة:275} لا سيما إذا كان مستندًا إلى فتوى يرى أنها صحيحة - نسأل الله أن يرزقني وإياكم علمًا نافعًا وعملًا صالحًا-. انتهى.
والله أعلم.