عنوان الفتوى : الحساب على الصغائر والكبائر، والترهيب من اتباع الهوى
قال لي أحد الإخوة إنه يظن أن الله عز وجل لن يحاسب الناس على الحلال والحرام، بل أظن أنه سيحاسبهم على فقدانهم لعقولهم أولا -أظن أنه يقصد غير الكبائر- على سبيل المثال: لا بأس إذا كان شخص ما يكذب، وينم، أو ينظر إلى الحرام، أو يستمع إلى المعازف، أو يسيء إلى الناس بنية المزاح إذا كان يفعل، أو لفعل الخيرات مثلا يتصدق على الناس، أو يخدم مصالح جمعية إسلامية ما. فالخلاصة أظن أنه يعتقد (دون أن يدري) أنه لا بأس في اتباع بعض الأهواء ما دامت ضمن العرف، والمقبول اجتماعيا. ما حكم هذا الاعتقاد والفعل؟ وهل التقوى واجبة؟ وأنا أرى أن في هذا الأخ الخير في دينه، وإحسانه، لكن ليس له علم بفتنة الهوى, وابتلي بمعاشرة أصحاب الهوى، وتأثر باستقرارهم، واطمئنانهم للهوى. فما هو الأسلوب المناسب لكي أنصحه؛ لأني أراه مؤتلفا بأهوائه، ويكبرني سنا؛ لأني أظن أنه سيغضب لأهوائه دون علم، وستزين له أن هذا ينافي العقل؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالعبد يحاسب على كل ما يفعله، وليس له أن يتهاون بمحقرات الذنوب، أو الصغائر؛ قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا. سورة الكهف (49).
عن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال: ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر.
فليحذر العبد من احتقار الذنوب بدعوى كونها صغائر؛ فكيف بمن يرى أنه لن يحاسب أصلاً عليها؛ وانظر الفتوى رقم: 117260 وللفائدة راجع الفتويين: 97049، 146495.
ولا يمكن أن يكون العرف وحكم الناس هو الحاكم على الشرع؛ قال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) سورة الأنعام.
بل الواجب لزوم الدين، وعدم اتباع سبيل الجهال المخالفين للشرع؛ قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) سورة الروم.
وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) سورة الجاثية.
والتقوى واجبة.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في الشرح الممتع: قوله تعالى: "ذَلِكَ ومَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ " [الحج:32]،..، والتَّقوى واجبة. انتهى.
ويدل على وجوبها أمر الله - عز وجل - بها عباده في آيات كثيرة، منها:
قال الله تعالى:{وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (سورة البقرة: 281).
إلى غير ذلك من المواضع التي لا تحصى كثرة، والأصل في الأمر الوجوب.
وأما عن طريقة نصحه؛ فراجع الفتويين: 117973، 106673، ويمكنك الاقتداء بنبي الله شعيب -عليه السلام- في قوله لقومه: إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [هود:84].
فذكره بأعماله الصالحة التي يقوم بها، وأنك تريده بخير، وادع الله أن يفتح قلبه، ويبصره.
والله أعلم.