عنوان الفتوى : أقوال الصحابة والتابعين ليست من مصادر المعرفة في العلوم الطبيعية

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

أريد أن أسأل عن موضوع فهم الصحابة والسلف، وتفسيرهم لبعض الآيات أو الأحاديث التي تتناول المواضيع الدنيوية ، أو بعض الإعجاز العلمي في العلوم الطبيعية ، هل نحن كوننا من السلفية - وهي فهم القرآن والسنة بفهم سلف الأمة - ملزمون باتباعهم في هذا التفسير للآية أو الحديث في هذا الجانب الدنيوي ؛ لأنه قد سألني أحد الناس عن مثل هذه ، وكان فيما معنى كلامه أن تعريف السلفية هكذا بأن فيه نقص ؛ لأنه يرى عدم الالتزام بتفسير السلف في الأمور الطبيعية ، أي يفترض أن يكون التعريف: هو فهم القرآن والسنة، بفهم سلف الأمة ، في الأمور الشرعية فقط ، فهل ما قاله صحيح ؟

مدة قراءة الإجابة : 9 دقائق


الحمد لله
العلوم الطبيعية ليست من مقاصد القرآن الكريم ، ولا من علوم الشريعة الإسلامية ، وإنما هي جهود بشرية ، ناتجة عن عمليات عقلية وتجريبية متراكمة عبر التاريخ والحضارات ، أما نصوص الوحي المتمثلة بالكتاب والسنة النبوية الصحيحة فليست مكانا للمباحث التجريبية ، ولا محلا لسبر أغوار العلوم الطبيعية ، بل نطاقها أعلى وأرقى من ذلك ، وهو البحث في هداية البشرية لأفضل الأعمال والأقوال والاعتقادات، وخطاب الأرواح والعقول والنفوس بما يضفي إلى وجودها معاني الحق والعدل والخير والسعادة ، كما هي رسالة الإسلام كله في قول الله عز وجل : ( الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) إبراهيم/1.
وكذلك الشأن في الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين ، هي في معظمها المطلق : تركز على جوانب التزكية والتربية والفقه والعقيدة ، وتصب كليتها في الإطار الإصلاحي على جميع المستويات العلمية والعملية .
أما العلوم الطبيعية فليست من علوم العرب في ذلك الوقت ، رغم أهميتها وجلالة قدرها، ورغم وجود آثار من علوم الفلك في البيئة العربية ، وبقايا علوم أخرى متناثرة ، يمكن الاطلاع عليها في كتاب "الأنواء" لابن قتيبة (ت276هـ) ، وكتاب "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" لجواد علي، ولكن ذلك لم يبلغ شأنا يذكر في مجتمع مكة والمدينة ، ولم يكن من اشتغالاتهم ، لأسباب عديدة ليس هذا محل شرحها، وإطلالة سريعة على كتب الآثار كفيلة بإقناع القارئ بهذه الحقيقة ، حيث يندر أن يقف فيها على أقوال للصحابة أو التابعين تتعلق بالعلوم الطبيعية ، وإن وردت إنما ترد عَرَضًا لا قصدا، في سياق الحديث عن عبادة أو عقيدة أو تزكية .
نقرر هذا كي نستدل به على أن أقوال الصحابة في العلوم الطبيعية ليست مناط احتجاج ، ولا تمثل عند أحد من الأصوليين أو الفقهاء أو المحدثين دليلا كافيا لبناء معرفة طبيعية أو تجريبية، فليست هذه المساحة من النطاق التشريعي كي يخوض فيها علماء الشريعة ، ولا من المجالات التي أمرت النصوص بالالتزام بها والاحتجاج فيها.
ولو تأملنا النصوص التي استدل بها العلماء على حجية الإجماع ، ومنه أخذ كثير من العلماء الاحتجاج على حجية " فهم السلف الإجماعي" ، لوجدناها مقيدة بالنطاق الإيماني ، الذي يشمل العلم والعمل ، أما النطاق الطبيعي فلا يفهم من النص ولا من السياق.
تأمل قول الله عز وجل: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) النساء/ 115 ، فوصف "المؤمنين" هنا مشتق ، يُشْعِرُ بالعِلِّيَّة المقيِّدة ، التي هي "النطاق الإيماني" كما سبق بيانه .
ومنه أيضا قوله تعالى: ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاق ٍ) البقرة/ 137، فقوله: (بمثل ما آمنتم به) واضح الدلالة على أن الاقتداء بإجماع السلف المقصود به الاقتداء الإيماني ، وليس شيئا غيره .
وليس ذلك انتقاصا من قدرهم الجليل ، ولا تناقضا مع دليل الإجماع القطعي الذي هو أحد مصادر التشريع ، بل هو التزام بالأمر النبوي نفسه ، وحمل له على وجهه الصحيح ، والمقصود هنا ما ثبت عن أَنَسٍ رضي الله عنه : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ ، فَقَالَ: ( لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ) قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا ، فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: ( مَا لِنَخْلِكُمْ ؟ ) ، قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَ،. قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ) رواه مسلم (2363) (إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ) ، وفي لفظ في "مسند الإمام أحمد" (20/19): ( إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ ) .
ومما يؤكد ذلك أن العلماء كثيرا ما ردوا مرويات أثرية عن الصحابة أو التابعين، تعلقت بعلوم طبيعية، لِما يرد عليها من إشكالات أساسية ، منها التلقي عن بني إسرائيل، ومخالفة الواقع المشاهد ، ونحو ذلك من الأسباب التي تدفعهم لرد مثل تلك الآثار.
الأمر الذي يعني بوضوح أنها لا حجية فيها في هذا النوع من الاستدلالات.
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير ظاهرة "قوس قزح"، فقد ورد عنه رضي الله عنه أنه فسرها بأنها علامة لأهل الأرض على أمانهم من الغرق بعد الطوفان العظيم الذي ملأ الأرض زمن نوح عليه السلام، روى ذلك الإمام البخاري رحمه الله في "الأدب المفرد" (رقم765)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10/243) بسندهما إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (المَجَّرةُ بابٌ مِن أَبْوَابِ السَّمَاءِ، وَأَمَّا قوسُ قُزح فَأَمَانٌ مِنَ الغَرق بَعْدَ قَوْمِ نوح عليه السلام)
ولكن مما لا يخفى على أحد اليوم أن هذا القوس الملون قد يظهر في أفق السماء عند العواصف المغرقة، وعقب السيول الجارفة، كما أن تفسيره كظاهرة جوية معلومة السبب ، بات من المسلمات اليوم لدى جميع العلماء ، بل ويمكن صنعه في المختبرات الصغيرة على أساس نشر أطياف الضوء ودرجاته .
كل ذلك يدلنا على التوقف فيما ورد عن ابن عباس ، والتفتيش عن مَكْمَن الخطأ فيما نقل عنه، إن كان بسبب الاجتهاد الخاطئ، أو الأخذ عن أهل الكتاب ، أو الخطأ في الرواية .
لذلك علق عليه الشيخ الألباني رحمه الله بقوله:
"إذا ثبت أن الحديث موقوف، فالظاهر حينئذ أنه من الإسرائيليات التي تلقاها بعض الصحابة عن أهل الكتاب، وموقف المؤمن تجاهها معروف، وهو عدم التصديق ولا التكذيب، إلا إذا خالفت شرعا أو عقلا" انتهى باختصار من "السلسلة الضعيفة"، (رقم/872) .
ويقول الدكتور مساعد الطيار حفظه الله:
"في تفسير قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد)، ورد عن بعض السلف في تفسير (ق) أنه جبل محيط بجميع الأرض يقال له جبل قاف. وهذا الخبر غريب جدا، وقد استنكره بعض الأئمة، كابن كثير الدمشقي، ولم يسنده الطبري كعادته، بل ذكره من دون ذكر قائله، ومحله عندما تعرضه على عقلك كما ترى.
لكن هل يستحيل عقلا وجود مثل هذا الجبل؟
لو قال قائل - ممن سبقنا ولم يدرك صور الأرض من الفضاء -: لا يلزم أن يكون الإنسان أدرك جميع التفاصيل المتعلقة بالأرض وأحوالها، وقد يكون هذا الجبل موجودا لكن لم يدركه الإنسان، ولم يعرف كنهه، ويكون مما أخبرت به بعض الأنبياء، فبقي مكتوبا عند بني إسرائيل، فيبقى الأمر محتملا للتصديق والتكذيب، وليس مما تحيله العقول ... =
فإن قوله من جهة التحليل العلمية : قول صحيح، ولا يمكن أن يُخَطَّأ بدعوى عدم قبول العقل لها.
فإذا وجد من يقول بهذا من السابقين، فإننا اليوم - وقد جاب الباحثون الفضاء ، فلم يظهر لهم جبل قاف - يمكننا أن ننكره بالحس" انتهى .
باختصار من بحث له بعنوان "تصحيح طريقة معالجة تفسير السلف في بحوث الإعجاز العلمي"، نشر في "مجلة معهد الإمام الشاطبي"، العدد2، ذو الحجة، 1427هـ، (ص121 – 123)

أسئلة متعلقة أخري
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي...