عنوان الفتوى : هل درهم الربا أشد من ست وثلاثين زنية؟
قرأت حديثا فيه أن درهما من الربا أشد من زنا الرجل بأمه ، وحقيقة أشكل علي كيف يكون هذا؟
الحمد لله
هذا الحديث مروي بألفاظ مختلفة ، ومن أشهرها : ( الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ
بَابًا ، أَيْسَرُهَا : مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ ، وَإِنَّ أَرْبَى
الرِّبَا : عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ) ، رواه الحاكم في "المستدرك على
الصحيحين" (2/ 43) من حديث ابن مسعود.
ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (6/561) من حديث أبي هريرة ، بلفظ : ( الرِّبَا
سَبْعُونَ حَوْبًا ، أَيْسَرُهَا نِكَاحُ الرَّجُلِ أُمَّهُ ، وَأَرْبَى الرِّبَا :
اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ).
ورواه الإمام أحمد في " المسند" (36/288) من حديث عبد الله بن حنظلة ، بلفظ : (
دِرْهَمٌ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ، أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ
وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً) .
وهذا الحديث مشهور ومتداول بين الخطباء
والوعاظ وطلبة العلم ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة.
ومن العلماء من حسن أو صحح بعض طرقه أو صححه بمجموعها .
ولكن الذي يظهر ، والله أعلم ، أن هذا
الحديث منكر ، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدل على ذلك ثلاثة أمور :
الأول:
أن جميع طرق وروايات هذا الحديث تدور على رواة ضعفاء ومتروكين ، أو رويت بأسانيد
معلولة منكرة لا تصلح للاعتضاد .
ولم يرو بإسناد سليم سالم من الضعف والعلل .
ومثل هذا المعنى الذي يتضمنه الحديث ، لا يقبل فيه رواية من هو في أدنى درجات
القبول كالمستور والصدوق ، فضلا عن رواية الضعفاء والمجاهيل والمجروحين .
وقد تكلم ابن الجوزي في كتابه
الموضوعات على طرق هذا الحديث وبين ضعفها ، وقال : " لَيْسَ فِي هَذِه الأحاديث شيء
صَحِيح". انتهى من "الموضوعات" (2/ 247).
وقال الشيخ المحقق عبد الرحمن المعلمي اليماني : " والذي يظهر لي أن الخبر لا يصح
عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة" انتهى من تعليقه على "الفوائد المجموعة" (ص:
150).
وكذا رجح محققو مسند الإمام أحمد ضعف الحديث من جميع طرقه . ينظر: "مسند أحمد" ط
الرسالة (36/289).
وأطال في تخريجه الشيخ أبو إسحاق الحويني في "غوث المكدود" (647) وخلص إلى " أن
الحديث لا يمكن نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، لا تصحيحاً ولا تحسيناً ،
وأحسن أحواله أن يكون ضعيفا ، وعندي أنه باطل ، وفي متنه اضطراب كثير". انتهى
وكذلك درس هذه الروايات باستفاضة الشيخ الدكتور علي الصياح في بحثه " أحاديث تعظيم
الربا على الزنا ، دراسة نقدية" ، وخلص فيها إلى تضعيف الحديث من جميع طرقه ، وأنها
كلها واهية ومنكرة لا تصلح للتقوية .
وقال في خلاصة بحثه: " لم يصح شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في تَعْظيمِ
الرّبَا على الزنا". انتهى من "أحاديث تعظيم الربا على الزنا" (ص: 169)
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير : " الحديث ، سواء في اللفظ هذا أو ذاك : مضعف عند
أهل العلم، ومنهم من قواه وأثبته على أقل درجات القبول ". انتهى من "شرح ألفية
العراقي" (9/7، بترقيم الشاملة آليا).
الثاني :
أن المعنى الذي تضمنه الحديث منكر ومستغرب ، فكيف يكون درهم الربا أشد من الزنا ،
فضلا عن ست وثلاثين زنية ، وقد عُلم عِظَم حرمة الزنا في الشريعة ؛ فكيف إذا كان
ذلك زنا بالمحارم ، عياذا بالله ؟!
ففي الزنا فساد الدين والدنيا ، وسماه الله : (فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) ، ونهى
عن الاقتراب منه ، وحرمت الشريعة كل الطرق المفضية إليه ، وسدت الذرائع الموصلة له
، وفيه خيانة كبرى لزوج المزني بها ووالديها وأسرتها ، ويؤدي إلى فساد الأخلاق
وارتفاع الحياء ، واختلاط الأنساب ، إلى غير ذلك من المفاسد العظيمة التي استوجبت
أن يكون حد الزناة المحصنين الرجم بالحجارة حتى الموت، وحد غير المحصنين الجلد
والتغريب، ورد شهادتهم ووصفهم بالفسق إلا أن يتوبوا، ومصيرهم في البرزخ إلى تنور
مسجور تشوى فيه أجسادهم.
فهل يعقل بعد ذلك أن يكون درهم واحد من الربا أعظم من ست وثلاثين زنية ؟!
وأشدّ من ذلك نكارةً : التصريح بتعظيم الربا على الزنا بالأم !!
وقد ذكره البيهقي في "شعب الإيمان"
(4/394) من حديث ابن مسعود وقال : "هذا إسناد صحيح ، والمتن منكر بهذا الإسناد ،
ولا أعلمه إلا وهما ، وكأنه دخل لبعض رواة الإسناد في إسناده" انتهى .
وكأن البيهقي رحمه الله يشير إلى أحد رواة الحديث .
وهو محمد بن غالب التمار المعروف بالتمتام ، فهو وإن كان ثقة إلا أن له بعض الأوهام
والأخطاء ، وقد وقع منه أنه أدخل حديثا في حديث آخر . فالظاهر أن هذا الحديث من
جملة أوهامه .
وانظر : "أحاديث تعظيم الربا على الزنا، دراسة نقدية" (ص65) .
وقال ابن الجوزي : " وَاعْلَم أَن مِمَّا يردُّ صِحَة هَذهِ الْأَحَادِيث : أَن
الْمعاصِي إِنَّمَا يعلم مقاديرها بتأثيراتها ، وَالزِّنَا يُفْسد الْأَنْسَاب ،
وَيصرف الْمِيرَاث إِلَى غير مستحقيه ، ويؤثر من القبائح مَا لَا يوثر أكل لقمة لَا
تتعدي ارْتِكَاب نهي، فَلَا وَجه لصِحَّة هَذَا". انتهى من "الموضوعات" (2/248).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ ثَلَاثٌ: الْكُفْرُ ، ثُمَّ
قَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، ثُمَّ الزِّنَا ، كَمَا رَتَّبَهَا اللَّهُ
فِي قَوْلِهِ: ( وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ)
.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْت يَا
رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟
قَالَ: (أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك) .
قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟
قَالَ: (ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك).
قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟
قَالَ: (أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك) ". انتهى من "مجموع الفتاوى" (15/428).
فقرن سبحانه وتعالى الزنى بالشرك وقتل النفس، وجعل جزاءَ ذلك الخلودَ في العذاب
المضاعف مالم يرفع العبد موجب ذلك بالتوبة والإيمان والعمل الصالح.
وقال ابن القيم : " ولما كانت مفسدة الزنى من أعظم المفاسد، وهي منافية لمصلحة نظام
العالم في حفظ الأنساب، وحماية الفروج ، وصيانة الحرمات ، وتوقّي ما يُوقع أعظمَ
العداوة والبغضاء بين الناس ، من إفساد كل منهم امرأة صاحبه وابنته وأخته وأمّه ،
وفي ذلك خراب العالم : كانت تلي مفسدة القتل في الكبر، ولهذا قرنها الله سبحانه بها
في كتابه ، ورسوله بها في سنته.
قال الإِمام أحمد: ولا أعلم بعد قتل النفس شيئًا أعظم من الزنى". انتهى من "الداء
والدواء" (ص/345).
وقال الشيخ ابن عثيمين :
" هذا الحديث لا شك أن في متنه شيئاً من النكارة ... فمثل هذا المتن في القلب منه
شيء ؛ وذلك لعظم العقوبة في أمر يَظهر للإنسان أن ما مُثِّل به اشد وأعظم من
الممثَّل ، فالله أعلم".
انتهى من "فتح ذي الجلال بشرح بلوغ المرام" (9/322).
الثالث :
أن هذا الحديث صح من قول اثنين من علماء اليهود ، وهما عبد الله بن سلام ، وكعب
الأحبار ، مما يدل على أن أصل الرواية من الإسرائيليات ومرويات أهل الكتاب.
فروى البيهقي في "شعب الإيمان" (7/ 361) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ
قَالَ: " الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حُوبًا، وَأَدْنَى فُجره مِثْلُ أَنْ
يَقَعَ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ" .
وفي "مصنف" عبد الرزاق الصنعاني (8/315) ، و"مصنف" ابن أبي شيبة (6/558) ، عَنْ
عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّاهِبِ ، عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ ، قَالَ :
"لأَنْ أَزْنِيَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ زَنْيَةً ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَكْلِ
دِرْهَمٍ رِبًا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنِّي أَكَلْته حِينَ أَكَلْته وَهُوَ رِبًا".
فلعل علماء بني إسرائيل قالوا لذلك
تنفيراً لليهود من هذه المعصية الكبيرة التي تجرأوا عليها ، حتى كانت من معاصيهم
التي استحقوا عليها العقاب من الله .
قال سبحانه وتعالى : ( فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً *
وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ
بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً).
وقال عنهم: ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ).
وقال فيهم: ( وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمْ
الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).
والله أعلم
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |