عنوان الفتوى : هل حديث (لم يكمل من النساء إلا أربع) صحيح ، وما المقصود بالكمال، وهل انقطع الكمال في هذه الأمة ؟
حديث : ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع ..) ؛ ما المقصود بالكمال هنا ؟ وهل هناك رجال كاملون في هذا الزمن ، أم فقط انتهى الكمال بعد العصر النبوي والصحابة ؟
الحمد لله
أولا:
هذا الحديث رواه البخاري (3411) ، ومسلم (2431) وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد
والمصنفات من طريق شُعْبَةَ بن الحجاج، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُرَّةَ
الهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ،
وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ
بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ
عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ).
ورواه عن شعبة بن الحجاج -باللفظ السابق أو نحوه - جمعٌ من الثقات. ينظر: "المسند
المصنف المعلل" (29/635)، "المسند الجامع" (11/451).
قد ورد الحديث بلفظ : (كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلّا أربع : آسية
بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد )
انتهى من "الكشف والبيان عن تفسير القرآن" للثعلبي (27/71).
وهذه رواية شاذة ضعيفة لمخالفتها لرواية الثقات من أصحاب شعبة بن الحجاج .
وفي سندها : الحسين بن محمد بن فنجويه شيخ الثعلبي ، قال عنه الذهبي : " كَانَ ثقة،
صدوقًا ، كثير الرواية للمناكير". انتهى من "تاريخ الإسلام" (9/234) .
فالصواب أن الحديث ليس فيه كلمة (أربع) ، وأن المستثنى من النساء هما فقط ( آسية
امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ).
ثانياً :
المراد من الكمال في هذا الحديث : بلوغ الغاية الممكنة ، في التقوى والفضائل
والأخلاق والخصال الحميدة.
قال النووي : " والمُرَادُ هُنَا : التَّنَاهِي فِي جَمِيعِ الْفَضَائِلِ وَخِصَالِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى". انتهى من " شرح صحيح مسلم" (15/198).
وقال الصنعاني : ( كمل من الرجال كثير) في الدين ، إذ هو الكمال الحقيقي ، ويقال: كمال المرء في سنة العلم والحق والعدل والصواب والصدق والأدب ، والكمال في هذه الخلال موجود في كثير من الرجال بفضل العقول وتفاوتها ". انتهى من "التنوير شرح الجامع الصغير" (8/239).
وقال القرطبي : " ولا شك أن أكمل نوع الإنسان : الأنبياء ، ثم تليهم الأولياء ، ويعني بهم : الصديقين ، والشهداء ، والصالحين". انتهى من "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (20/72).
ولا شك أن هذه المرتبة من الكمال وصل لها الكثير من الرجال ، بخلاف النساء .
فالرجال كان منهم الرسل والأنبياء ، وأعداد لا تحصى من الشهداء والصديقين والأولياء ، وكثير من هؤلاء بلغ الغاية في الكمال في هذه المراتب .
بخلاف النساء ؛ فهن وإن كان فيهن صديقات وصالحات ؛ إلا أنه لم يبلغ منهن مرتبة الكمال فيها إلا أقل القليل .
قال الشيخ ابن باز مبينا معنى (الكمال) : " يعني في الصفات الإنسانية التي مدحها
الله وأثنى على أهلها من: العلم ، والجود ، والاستقامة على دين الله ، والشجاعة في
الحق ، وغير ذلك من الصفات العظيمة ، التي مدحها الله سبحانه ، وأثنى على أهلها ،
أو رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكن أكمل الناس في ذلك هم الرسل عليهم الصلاة
والسلام ، وأكملهم وأفضلهم هو خاتمهم وإمامهم: محمد صلى الله عليه وسلم " انتهى من
"مجموع الفتاوى" (7/398).
ثالثاً :
لا شك أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي أفضل الأمم على الإطلاق ، فلا تخلو من
وجود من بلغ درجة الكمال من الرجال والنساء ، ولا يبعد وجود هؤلاء في كل زمان ومكان
، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
وليس ثمة ما يمنع من وجود الكُمّل من الرجال والنساء بعد عصر النبوة والصحابة، من
أمثال التابعين وأتباعهم، وعلماء الأمة إلى يوم الناس هذا.
ولذلك ذكر معظم شراح الحديث أن المراد من هذا الحديث : الأمم السابقة .
قال القرطبي: " ولم يتعرض النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لأحد من نساء
زمانه ، إلا لعائشة خاصة ، فإنَّه فضلها على سائر النساء" انتهى من "المفهم"
(20/73).
وقال شيخ الإسلام : "يَعْنِي مِنْ نِسَاءِ الْأُمَمِ قَبْلَنَا" انتهى من "الجواب
الصحيح" (2/350).
وقال الحافظ ابن حجر: " فَالْمُرَادُ : مَنْ تقدمَ زمانَه ، صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ زَمَانِهِ" انتهى
من "فتح الباري" (6/447) ، وينظر" شرح النووي على مسلم" (15/199).
وقال القاضي عياض : " وليس يشعر الحديث بأنه لم يكمل ، ولا يكمل ، ممن يكون في هذه
الأمة غيرهما " انتهى من "إكمال المعلم" (7/440).
وقال ابن كثير : " وَلَفْظُهُ يَقْتَضِي حَصْرَ الْكَمَالِ فِي النِّسَاءِ فِي
مَرْيَمَ وَآسِيَةَ ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ فِي زَمَانِهِمَا، فَإِنَّ
كُلًّا مِنْهُمَا كَفَلَتْ نَبِيًّا فِي حَالِ صِغَرِهِ، فَآسِيَةُ كَفَلَتْ مُوسَى
الْكَلِيمَ، وَمَرْيَمُ كَفَلَتْ وَلَدَهَا عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَه.
فَلَا يَنْفِي كَمَالَ غَيْرِهِمَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَخَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ
" انتهى من "البداية والنهاية" (2/431).
وقال السيوطي: " (كمل من الرِّجَال كثير) أَي من الْأُمَم السَّابِقَة ، (وَلم يكمل
من النِّسَاء إلا امْرَأَتَانِ) وَلَا يلْزم مِنْهُ انه لم يكمل من أمته صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد من النِّسَاء ، بل لهَذِهِ الْأمة مزية على غَيرهَا "
انتهى من "شرح سنن ابن ماجه" (1/236).
وقال الصنعاني : " "وليس في الاقتصار عليهما حصر للكمال فيهما ".
انتهى من "التنوير شرح الجامع الصغير" (8/239).
وللفائدة ينظر جواب السؤال : (7181) و(145623) .