عنوان الفتوى : هل نداء الجمادات يعد من الشرك بالله ؟
أنا طالب جامعي مقبل على تحضير شهادة الدكتوراة في الأدب العربي تخصص تحليل الخطاب وعندي استفسار أرجو منكم تفصيلا في جوابه هل في قول الشاعر: يا دار عبلة بالجواء تكملي ، ونحوها يعد شركا. وهل كل نداء لغائب أو جماد أو بكاء على طلل يعد شركا. أرجو التوضيح من فضلكم.وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله
ليس كل نداء لغائب أو جمادٍ يعد شركاً ، بل يختلف الحكم باختلاف القصد من النداء ،
وذلك أن النداء في لغة العرب ، وإن كان الأصل فيه طلب الإِجابة لأمْرٍ ما ، إلا أنه
يستعمل لمعانٍ أخرى مختلفة ، تفهم من السِّياق والقرائن ، وشواهد ذلك في لغة العرب
وأشعارهم كثيرة ومستفيضة .
فقد يكون النداء على سبيل "التحسر والتوجع" ، كقول الشاعر يرثي معن بن زائدة:
فَيَا قَبْرَ مَعْنٍ كَيْفَ وَارَيْتَ جُودَهُ ** وَقَدْ كَانَ مِنْهُ الْبَرُّ
والْبَحْرُ مُتْرَعاً
وقد يكون للتعجب ، كقول طرفة:
يا لَكِ من قُبَّرَةٍ بمَعْمِرِ ** خَلاَ لَكِ الجَوُّ فَبِيضي واصْفِري
وقد يكون المقصود به النُّدبة ، وهي النداء للتفجع على الشيء أو للتوجع منه ، كقول
أبي العلاء:
فواعجباً كم يدَّعي الفضلَ ناقصٌ ** وَوَا أسفاً كم يظهر النقص فاضل
وقد يوجّه النداء إلى من لم يُقصد إسماعه ، كأن تقول لميّت تندبه: يا زيد ما أجلّ
مصيبتنا بفقدك.
ومن ذلك : نداء الأطلال والمنازل والمطايا، كقول أبي العلاء:
يا ناقُ جِدّي فقدْ أفنَتْ أناتُكِ بي ** صَبري وعُمري وأحلاسي وأنساعي
وقول النابغة :
يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلياءِ فَالسَنَدِ ** أَقوَت وَطالَ عَلَيها سالِفُ الأَبَدِ
وقول امرئ القيس:
أَلا عِم صَباحاً أَيُّها الطَلَلُ البالي ** وَهَل يَعِمَن مَن كانَ في العُصُرِ
الخالي
وقد ينادون الأوقات، بمعنى
الاشتكاء لطولها، أو المدح لها بما نالوا من السّرور فيها.
كما قال امرؤ القيس متضجّراً من طول ليله:
أَلاَ أَيُّها اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلاَ انْجَلِي ** بِصُبْحٍ وَمَا الإِصْبَاحُ
مِنْكَ بِأَمْثَلِ
قال ابن الشجري ( المتوفى سنة 542 هـ): " فهذه وجوه شتّى قد احتملها النّداء، وإن
كان في أصل وضعه لتنبيه المدعوّ " انتهى من "أمالي ابن الشجري" (1/417) .
وجاء في كتاب "البلاغة
العربية: أسسها ، وعلومها ، وفنونها" (1/241): " وقد يخرج النداء عن المعنى الأصليّ
الموضوع له ، فيُسْتَعْمَلُ لدى البلغاء وغيرهم في أغراضٍ أخْرى غير النداء، وهذه
الأغراضُ تُفْهَمُ من قرائن الحال أو قرائن المقال ، فكلُّ حَرَكَةٍ نفسيَّةٍ ذات
مشاعِرَ ، تَدْفَعُ الإِنسان إلى التعبير عنها بنداء ما ، بطريقةٍ تلقائية ، ولو لم
يشعر بأنّ هذا النداء يحقق له مرجوّاً أو مأمولاً ، أو يدفع عنه مكروها.
كأن يستعمل النداء في : الزّجْر واللّوم ، أو التحسّر والتأسّف والتّفجع والندم أو
النُّدْبة ، أو الإِغراء ، أو الاستغاثة ، أو اليأس وانقطاع الرجاء ، أو التمني ،
أو التذكر وبث الأحزان ، أو التضجر ، أو الاختصاص ، أو التعجب ، إلى غير ذلك" انتهى
.
وينظر: "جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع" (ص: 90) ، "علوم البلاغة ،
البيان، المعاني، البديع" (ص: 82) ، "البلاغة العربية" (1/250).
يتبين مما سبق : أن أسلوب النداء ليس ملازما للطلب والدعاء ، أو الاستغاثة ، في كل أحواله , وإنما قد يكون للطلب ، وقد لا يكون ، بحسب سياق الكلام ومقصوده .
ولذلك لا يصح أن يجعل النداء
(هكذا مطلقا في جميع أحواله) مناطا لبناء الشرك أو الكفر عليه ؛ لاحتماله وتردده
بين معان مختلفة في الحقيقة والحكم .
بل مناط الحكم في هذا الباب هو تحقق الطلب من غير الله ، فيما لا يقدر عليه إلا
الله ؛ فحيث وجد هذا النوع من الطلب في النداء أو غيره : كان شركا ، وإذا لم يوجد
لم يكن شركا ، ولو كان بصيغة النداء والدعاء .
فكل من نادى غير الله من الجمادات وغيرها , وظهر من حاله أو القرائن المحتفة
بالكلام ، أو واقعه : بأنه لا يقصد الطلب ، وإنما له مقصد بلاغي ، أو أدبي ، أو
وجداني آخر، سوى الطلب والرغبة ، على ما مر تفصيله , فهو في الحقيقة لم يقع في
الاستغاثة بغير الله .
وبناء على هذا ، فقول القائل
: " يا دار عبلة " أو قول بعضهم : " يا طيبة" : ليس داخلا في باب الشرك قطعا ؛ لأنه
في الحقيقة لا ينادي الدار ، أو المدينة ، نداء طلب واستغاثة , وإنما يناديها نداء
توجع وتألم , فهو لا يطلب من المدينة شيئا , وإنما يظهر ما جاش في مشاعره من الألم
والتوجع والشوق والحنين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وقوله : ( يا محمد يا نبي الله ) هذا
وأمثاله نداء يُطلب به استحضار المنادَى في القلب ، فيخاطب المشهود بالقلب ، كما
يقول المصلي : (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ) ، والإنسان يفعل مثل
هذا كثيرا ، يخاطب من يتصوره في نفسه ، وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب" انتهى
من "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/319).
وقال الشيخ سليمان بن عبد
الله بن محمد بن عبد الوهاب: " المستغاث به عندهم هو الذي يُدعى ويُسأل ويُطلب منه
الغوث ، والمنادي هو داعي المنادَى .
لكن فرقوا بين دعاء المستغاث به وغيره ، كما فرقوا بين دعاء الندبة وغيره ، كقوله :
يا حسرتا على ما فرطت ، وقولهم : يا أبتاه ، يا عمراه ، ونحو ذلك مما يلحقون في
آخره ألفاً لأجل مد الصوت ، إذ النادب الحزين يمد صوته وهو يندب ما قد فات ، فيمد
الصوت في آخر دعائه كقوله: يا أسداه ، يا ركناه ، يا أبتاه ، حتى قالوا يا أمير
المؤمنيناه ، يا عبد الملكاه ، إذ نداء الندبة يقوله الإنسان عند حدوث أمر عظيم،
ويقوله للتوجع، كقول سارة حين بشرت بإسحق: يا ويلتا.
بخلاف المستغيث فإنه يدعو المستغاث به كما يدعو غيره ، فيقول: يا لزيد ، كقوله يا
زيد ، لكن دل بهذه الصيغة أنه يطلب منه الإعانة على ما يهمه من أموره مطلقاً ،
بخلاف النداء المجرد فإنه لا يدل على ذلك .
فالمستغيث بالشيء : داعيه ، مع زيادة طلب الإغاثة" .
انتهى من "التوضيح عن توحيد الخلاق" (ص: 304) .
وقال الشيخ محمد بشير السهسواني (المتوفى: 1326هـ) : "المانعون لنداء الميت والجماد
، وكذا الغائب ، إنما يمنعونه بشرطين:
الأول : أن يكون النداء حقيقياً ، لا مجازياً.
والثاني : أن يقصد ويطلب به من المنادَى ما لا يقدر عليه إلا الله ، من جلب النفع
وكشف الضر. مثلاً يقال: يا سيدي فلان ؛ اشف مريضي وارزقني ولداً، ولا مرية أن هذا
النداء هو الدعاء، والدعاء هو العبادة، فكيف يشك مسلم في كونه كفراً وإشراكاً
وعبادة لغير الله؟ ".
ثم قال : " وأما النداء المجازي : فلا يمنعه أحد".
انتهى من "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" (ص: 366).
وقال : " مراد المانعين للنداء ليس مطلق النداء ، بل النداء الحقيقي الذي يُقصد به
من المنادَى ما لا يقدر عليه إلا الله ، من جلب النفع وكشف الضر، ولا مرية في أنه
عبادة ، وكونه عبادة وممنوعاً لا يقتضي كون كل نداء ممنوعاً ، حتى يلزم منه عدم
جواز نداء الأحياء فيما يقدرون عليه" انتهى من "صيانة الإنسان" (ص: 367).
وقد سئل الشيخ عبد الرحمن
البراك حفظه الله تعالى عن سؤال الجمادات والمحسوسات على سبيل المناجاة في القصائد
ونحوها ، في أمور لا يقدر عليها إلا الله، نحو قول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
ونحو قولهم في الشعر النبطي:
يا قبر أعز إنسان غالي رقد فيك * خفف عليه من التراب الثقيلي
ونحوها، أتكون من دعاء غير الله ، أم تكون من المجازات أو الاستعارات فيتساهل فيها؟
فأجاب: " الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، أما بعد؛ فإن ما في البيتين من
النداء ليس من قبيل دعاء غير الله الذي هو شرك.
بل النداء والأمر في البيت الأول : غاية الشاعر فيه التمني بانجلاء الليل، ونداء
الليل نوع من التخيل بأن الليل يسمع ويجيب، والشاعر يعلم أنه لا يسمع ولا يجيب، ولا
ينجلي بإرادة منه.
وكذا خطاب القبر في البيت الثاني : فإنه محض تخيل وأمانٍ، أو تحسر على الدفين الذي
لا يملك له الشاعر ولا غيره إنقاذه من مصيره، بل المالك لذلك الله وحده، الذي يحيي
ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وهكذا القول في كل ما يرد في الأشعار من خطاب الجمادات؛ كالأطلال والديار والدِّمن
والقبور، فكل ذلك من قبيل التمني أو التحسر.
أما خطاب أصحاب القبور الأموات ، لقضاء الحاجات : فهو الشرك المحبط للحسنات .
فيجب الفرقان بين التمنيات ، والتحسرات ، ودعاء الأموات ، والله أعلم" .
أملاه: عبد الرحمن بن ناصر البراك 17/صفر/1434هـ
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |