عنوان الفتوى : معنى حديث: إن الله حجب التوبة عن صاحب كل بدعة
جاء في الحديث: "إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة؛ حتى يرجع عن بدعته" فما صحة هذا الحديث؟ وإذا كان صحيحًا فهل يعني عدم قبول توبة المبتدع على الإطلاق؟ وهل يشمل هذا جميع أهل البدع, القاصد منهم, مع بيان الحجة عليه, والمغرر بهم، والبدع الصغيرة والكبيرة؟ وهل المقصود حجب البدعة عنه في بدعته, أم في جميع ذنوبه, سواء ما له علاقة ببدعته, وما ليس له علاقة؟ وإن كان هناك أمور أخرى متعلقة بفقه هذا الحديث فأرجو بيانها من فضيلتكم تكرمًا - جزاكم الله خيرًا -.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الحديث رواه إسحاق في مسنده، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي في الشعب بلفظ : إن الله حجب التوبة عن صاحب كل بدعة. قال فيه الهيثمي في مجمع الزوائد: ورواه الطبراني في الأوسط, ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي, وهو: ثقة.
وقد حسنه المنذري، وصححه الألباني، وضعفه شعيب الأرناؤوط.
وليس فيه قوله: حتى يدع بدعته. وإنما أورده بهذا اللفظ المنذري في الترغيب والترهيب.
ولكن أخرج ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ حَتَّى يَدَعَ بِدْعَته. ضعفه الألباني.
وأما توبة المبتدع: فقد جاء في غذاء الألباب للسفاريني: وَفِي إرْشَادِ ابْنِ عَقِيلٍ الرَّجُلُ إذَا دَعَا إلَى بِدْعَةٍ ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ، وَقَدْ ضَلَّ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ, وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ, وَمَاتُوا, فَإِنَّ تَوْبَتَهُ صَحِيحَةٌ إذَا وُجِدَتْ الشَّرَائِطُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ, وَيَقْبَلَ تَوْبَتَهُ, وَيُسْقِطَ ذَنْبَ مَنْ ضَلَّ بِهِ, بِأَنْ يَرْحَمَهُ وَيَرْحَمَهُمْ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ, خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ, وَهُوَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ، وَأَنَّهَا لَا تُقْبَلُ، ثُمَّ احْتَجَّ بِالْأَثَرِ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي فِيهِ: "فَكَيْفَ مَنْ أَضْلَلْت؟" وَبِحَدِيثِ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَبِمَا رَوَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ احْتَجَبَ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ».
وَاخْتَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ - صِحَّةَ التَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ, كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ, وَالْحَدِيثُ, وَصَوَّبَهُ، وَقَالَ: إنَّهُ قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ, وَغَلِطَ مَنْ اسْتَثْنَى بَعْضَ الذُّنُوبِ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: بِعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ الدَّاعِيَةِ بَاطِنًا، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَتُوبُ عَلَى أَئِمَّةِ الْكُفْرِ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ. انْتَهَى.
وأما معنى الحديث: فقَالَ الْقَاضِي: سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ اللَّهَ احْتَجَرَ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ» وَحَجْرُ التَّوْبَةِ إيش مَعْنَاهُ؟ قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُوَفَّقُ, وَلَا يُيَسَّرُ صَاحِبُ بِدْعَةٍ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}.. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ كَذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى أَلّا يَنْظُرَ نَظَرًا تَامًّا إلَى دَلِيلِ خِلَافِهِ, فَلَا يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ: إنَّ الْبِدْعَةَ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ السِّجِسْتَانِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا يَرْجِعُ, وَقَالَ أَيْضًا: التَّوْبَةُ مِنْ الِاعْتِقَادِ الَّذِي كَثُرَ مُلَازَمَةُ صَاحِبِهِ لَهُ, وَمَعْرِفَتُهُ بِحُجَجِهِ يَحْتَاجُ إلَى مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ, وَالْعِلْمِ, وَالْأَدِلَّةِ, وَمِنْ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ, وَاسْتَبْقُوا شَبَابَهُمْ» - رواه أبو داود، والترمذي بلفظ: واستبقوا شرخهم: وفسره أحمد بأنهم الشباب، وضعفه الألباني - قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: لِأَنَّ الشَّيْخَ قَدْ سَعَى فِي الْكُفْرِ, فَإِسْلَامُهُ بَعِيدٌ, بِخِلَافِ الشَّابِّ, فَإِنَّ قَلْبَهُ لَيِّنٌ, فَهُوَ قَرِيبٌ إلَى الْإِسْلَامِ. انتهى من غذاء الألباب.
وعليه, فخلاصة القول: إن المبتدع لا يكاد يفكر في التوبة؛ لاعتقاده أن بدعته قربة؛ ولذلك قال يحيى بن يمان: سمعت سفيان يقول: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها" رواه اللالكائي في السنة.
ولكن إن تاب تاب الله عليه؛ لعموم الأدلة على قبول التوبة؛ قال الشاطبي في الاعتصام: إذ لا يبعد أن يتوب عما رأى, ويرجع إلى الحق, كما نقل عن عبد الله بن الحسن العنبري, وما نقلوه في مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على علي - رضي الله عنه - وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز لبعضهم, ولكن الغالب في الواقع الإصرار.
ومن هنالك قلنا: يبعد أن يتوب بعضهم لأن الحديث يقتضي العموم بظاهره ...
وسبب بعده عن التوبة أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس؛ لأنه أمر مخالف للهوى, وصاد عن سبيل الشهوات, فيثقل عليها جدًّا؛ لأن الحق ثقيل, والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها, لا بما يخالفه, وكل بدعة فللهوى فيها مدخل؛ لأنها راجعة إلى نظر مخترعها ... مع ضميمة أخرى, وهي أن المبتدع لا بد له من تعلق بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع, ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع, فصار هواه مقصودًا بدليل شرعي في زعمه, فكيف يمكنه الخروج عن ذلك, وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به, وهو الدليل الشرعي في الجملة؟.
ويتضح من تعليلات العلماء أن المقصود لا يتوب من بدعته؛ لاعتقاده فضيلتها، سواء كانت بدعة صغيرة، أم كبيرة، وليس المراد أنه لا يتوب من الذنوب الأخرى التي يعلم أنها ذنوب ومعاصٍ.
ولا شك أن الذي وقع في البدعة خطأ أقرب إلى الهداية ممن وقع فيها قصدًا، وكذلك المقلد فيها أقرب إلى التوبة من الداعية إليها.
وأما صفة التوبة؛ فقال السفاريني: وَتَوْبَةُ الْمُبْتَدِعِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِأَنَّ مَا عَلَيْهِ بِدْعَةٌ, قَالَ فِي الشَّرْحِ - أي الشرح الكبير على المقنع -: فَأَمَّا الْبِدْعَةُ: فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا بِالِاعْتِرَافِ بِهَا، وَالرُّجُوعِ عَنْهَا، وَاعْتِقَادِ ضِدِّ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ مِنْهَا, وَفِي الرِّعَايَةِ: مَنْ كَفَرَ بِبِدْعَةٍ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، قِيلَ: إنْ اعْتَرَفَ بِهَا, وَإِلَّا فَلَا, قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ فِي الرَّجُلِ يُشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْبِدْعَةِ فَيَجْحَدُ: لَيْسَتْ لَهُ تَوْبَةٌ, إنَّمَا التَّوْبَةُ لِمَنْ اعْتَرَفَ فَأَمَّا مَنْ جَحَدَ فَلَا تَوْبَةَ لَهُ.
والله أعلم.