عنوان الفتوى : حقيقة الخوارج ، وهل يصبح المسلم خارجيا بمجرد وصفه لفعل ما بأنه من الشرك ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

هناك جماعات صوفية حيث أعيش ، وهم بعيدون عن الإسلام كل البعد ، فتراهم يصلون إلى القبور ويطلبون منها الشفاعة وعندما تُعرض عليهم الأدلة من القرآن والسنة على بطلان صنيعهم وأنه شرك وأنه مما أعتاد عليه وثنيو العرب في الجاهلية ، سارعوا إلى حديث في صحيح البخاري يرويه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال في الخوارج أنهم شر خلق الله ، وأنهم يأخذون آيات القرآن التي نزلت في الكافرين فيسقطونها على المؤمنين. ومن هنا ساغ للصوفية أن يصفوا كل من خالفهم أو تحدث عنهم بالخوارج . فهل بالإمكان إلقاء بعض الضوء على هذه المسألة والسياق الذي ورد فيه هذا الحديث ؟

مدة قراءة الإجابة : 14 دقائق


الحمد لله
أولا :
قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه في الخوارج ذكره البخاري من دون سند ، وهو كالآتي:
" وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ ، وَقَالَ : إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الكُفَّارِ ، فَجَعَلُوهَا عَلَى المُؤْمِنِينَ " انتهى من " فتح الباري " ( 12 / 282 ) . .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج أنه سأل نافعا كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية – وهو أحد أسماء الخوارج - ؟ قال : ( كان يراهم شرار خلق الله ، انطلقوا إلى آيات الكفار فجعلوها في المؤمنين ) . قلت : وسنده صحيح " .
انتهى من " فتح الباري " ( 12 / 286 ) .

ثانيا :
قول ابن عمر رضي الله عنه هذا ، سببه أمران :
الأمر الأول : أن الخوارج كانوا أناساً جهلة اعتدوا على نصوص الشرع بأهوائهم فتأولوا بعضها ، وأبطلوا بعضها الآخر ، فكان أن ابتدعوا قولاً في الدين خرجوا به عن إجماع وجماعة المسلمين ، واتبعوا سبيلاً غير سبيل الصحابة والتابعين ، فأصل قضيتهم وبلائهم في القرآن : أنهم تأولوه على غير تأويله ، ثم كفروا المسلمين بما ليس مكفراً ، واستحلوا دماءهم بذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" .. والمقصود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إني تارك فيكم ثقلين : كتاب الله ) ، فحض على كتاب الله ثم قال : ( وعترتي ، أهل بيتي ؛ أذكركم الله في أهل بيتي ، ثلاثاً ) ؛ فوصى المسلمين بهم ، لم يجعلهم أئمة يرجع المسلمون إليهم ، فانتحلت الخوارج كتاب الله ، وانتحلت الشيعة أهل البيت ، وكلاهما غير متبع لما انتحله .
فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها ، وكفروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم . ولهذا تأول سعد بن أبي وقاص فيهم هذه الآية ( وما يضل به إلا الفاسقين * الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض ) ، وصاروا يتتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأويله ، من غير معرفة منهم بمعناه ، ولا رسوخ في العلم ، ولا اتباع للسنة ، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن .
وأما مخالفة الشيعة لأهل البيت فكثيرة جداً قد بسطت في مواضع . " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 7 / 481 – 482 ) .
الأمر الثاني : أن هؤلاء الخوارج يتصفون بقوة النفس والجرأة والجلد الذي يغري الناظر إليهم ، ويعجب منه ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصفهم : ( يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ ) رواه البخاري ( 3610 ) ، ومسلم ( 1064 ) .
إلا أن قوة النفس هذه : قد استعملوها في الظلم والاعتداء على دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ، بناء على أصلهم الباطل في تكفير المسلمين بمجرد الذنوب ، واستحلوا منهم مالم يستحلوه من الكفار .
وهذه صفات الخوارج في جميع الأمكنة والعصور .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" وقصدوا – أي الخوارج - بلاد العراق وخراسان ، فتفرقوا فيها بأبدانهم وأديانهم ومذاهبهم ومسالكهم المختلفة المنتشرة ، التي لا تنضبط ولا تنحصر؛ لأنها مفرعة على الجهل ، وقوة النفوس ، والاعتقاد الفاسد " انتهى من " البداية والنهاية " ( 11 / 667 – 668 ) .

ثالثاً :
قول ابن عمر رضي الله عنه هذا وأحاديث ذم الخوارج لم يفهم منها أحد من أهل العلم أنه لا يجوز تكفير من يستحق التكفير ، ولا أن كل تكفير يصبح به المسلم خارجياً .
فالتكفير حكم من أحكام الله تعالى ، فقد حكم القرآن والسنة على بعض الأقوال والأفعال أنها كفر وشرك ، وتكفير من يستحق التكفير هو سبيل المسلمين ، وها هي كتب الفقه في جميع المذاهب تذكر عقوبة المرتد وهي القتل ، وتذكر في " باب المرتد " بعض الأقوال والأفعال التي إذا فعلها المسلم : فإنه يكفر ويخرج من الإسلام .
لكن الفرق بين أهل السنة وبين الخوارج في هذه المسألة في أمور مهمة :
1- أن الخوارج يكفرون المسلم بمجرد فعله للذنوب ، أو بما ليس بمكفر ، بل وبما ليس بذنب أصلا !! أما أهل السنة والجماعة فلا يكفرون بمجرد المعاصي والذنوب ، بل عقيدتهم أن مرتكب الكبيرة لا يكفر ، لكنه ينقص إيمانه بقدر معاصيه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" ومن أصول أهل السنة : أن الدين والإيمان قول وعمل : قول القلب واللسان ، وعمل القلب واللسان والجوارح ، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر ، كما يفعله الخوارج ؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي ، كما قال سبحانه وتعالى في آية القصاص : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ) وقال : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) " انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 3 / 151 ) .
2- أن أهل السنة لا يحكمون على فعل أو قول بأنه كفر إلا بدليل واضح وصريح من الكتاب والسنة .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
" فالواجِب قبل الحكم بالتَّكفير أن ينظر في أمرين : الأمر الأول : دلالة الكتاب والسُّنَّة على أن هذا مُكَفِّر ؛ لئلاَّ يُفترى على الله الكذب .
الثاني: انطباق الحُكم على الشخص المُعَيَّن ؛ بحيث تتم شروط التكفير في حَقِّه ، وتنتفي الموانع " انتهى من " مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " ( 2/ 134 ) .
3- يفرق أهل السنة بين حكم الفعل الكفري ، والقول الكفري ، وبين حكم فاعله وقائله ، فقد يقوم الشخص بعمل كفري ، لكنه لا يكفر؛ لوجود مانع يمنع من تكفيره ، لأن المسلم الذي يقول أو يفعل ما حكم الشرع بأنه كفر ، قد يكون معذوراً بالجهل ، أو الإكراه ، أو عدم التعمد أو التأويل ، فالتكفير لا يطلق على شخص معين إلا إذا توفرت شروطه ، وانعدمت موانعه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع = يقال هي كفر ، قولاً يطلق ، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية ؛ فإن " الإيمان " من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله ؛ ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم .
ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك ، بأنه كافر ، حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه ، مثل من قال : إن الخمر أو الربا حلال ؛ لقرب عهده بالإسلام ؛ أو لنشوئه في بادية بعيدة ، أو سمع كلاما أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن ، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها ، وكما كان الصحابة يشكون في أشياء ، مثل رؤية الله وغير ذلك ، حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومثل الذي قال: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليمِّ ؛ لعلي أضل عن الله ، ونحو ذلك ؛ فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة ، كما قال الله تعالى : ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) وقد عفى الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان.. " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 35 / 165 – 166 ) .
ولمزيد الفائدة راجع الفتوى رقم : ( 85102 ) حول ضوابط التكفير .

رابعاً :
ما زالت العادة معروفةً عند أهل العلم من الصحابة ، فمن بعدهم ، أنهم يستدلون بالنصوص والآثار الواردة أصالة في المشركين ، على من فعل مثل أفعالهم من المسلمين .
ومن أظهر الدلائل على ذلك :
حديث أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا : ذَاتُ أَنْوَاطٍ ، يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ ؟
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( سُبْحَانَ اللهِ ؛ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ؛ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ) .
رواه أحمد (21900) ، والترمذي (2180) ، وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وصححه الألباني .

ولأجل ذلك ورد التحذير من مشابهة المشركين ، واتباع سبيل من قبلنا : اليهود والنصارى ، وفارس والروم ؛ بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك كائن في أمته لا محالة .
قال الإمام الطبري رحمه الله ، في شرح أثر موقوف على حذيفة رضي الله عنه في ذلك :
" وإنما أراد حذيفة بقوله : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ) أن أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيتبعون آثار من قبلهم من الأمم حذو القذة بالقذة ، وذلك كما يقدر باري السهام الريش التي يركبها عليها حتى يكون بعضها مساويا بعضا ، متحاذيات غير مختلفات بالاعوجاج ، فكذلك أنتم أيتها الأمة ، في مشابهتكم من قبلكم من الأمم فيما عملوا به في أديانهم ، وأحدثوا فيها من الأحداث ، وابتدعوا فيها من البدع والضلالات ، تسلكون سبيلهم ، وتستنون في ذلك سنتهم " انتهى من " تهذيب الآثار" (7/97ـ الشاملة) .

وفي صحيح البخاري (4425) : عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ، قَالَ : " لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الجَمَلِ ، بَعْدَ مَا كِدْتُ أَنْ أَلْحَقَ بِأَصْحَابِ الجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ ، قَالَ : لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ ، قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى ، قَالَ : ( لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً ) " .
فانظر ، كيف أن أبا بكرة رضي الله عنه ، استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، على عدم اتباعه لأصحاب الجمل ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك أصالة في فارس ، وهم كفار .

وقد روى المروزي في السنة (65) عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: " كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَذَكَرُوا ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) [المائدة: 44] فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : إِنَّمَا هَذَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ : نِعْمَ الْأُخْوَةُ لَكُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ كَانَ لَكُمُ الْحُلْوُ وَلَهُمُ الْمُرُّ ، كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تُحْذَى السُّنَّةُ بِالسُّنَّةِ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ !! " .
ورواه أيضا : الطبري في تفسيره (12027) والحاكم في " المستدرك "(3218) .

والحاصل : أن كل من التزم بهذه الضوابط الشرعية ، فهو بعيد من الخوارج ومذهبهم ، بُعْدَ طريقِ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، عن سبيل أهل البدع والضلالة .
والله أعلم .