عنوان الفتوى : حقيقة الخوارج ، وهل يصبح المسلم خارجيا بمجرد وصفه لفعل ما بأنه من الشرك ؟
هناك جماعات صوفية حيث أعيش ، وهم بعيدون عن الإسلام كل البعد ، فتراهم يصلون إلى القبور ويطلبون منها الشفاعة وعندما تُعرض عليهم الأدلة من القرآن والسنة على بطلان صنيعهم وأنه شرك وأنه مما أعتاد عليه وثنيو العرب في الجاهلية ، سارعوا إلى حديث في صحيح البخاري يرويه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال في الخوارج أنهم شر خلق الله ، وأنهم يأخذون آيات القرآن التي نزلت في الكافرين فيسقطونها على المؤمنين. ومن هنا ساغ للصوفية أن يصفوا كل من خالفهم أو تحدث عنهم بالخوارج . فهل بالإمكان إلقاء بعض الضوء على هذه المسألة والسياق الذي ورد فيه هذا الحديث ؟
الحمد لله
أولا :
قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه في الخوارج ذكره البخاري من دون سند ، وهو
كالآتي:
" وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ ، وَقَالَ : إِنَّهُمُ
انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الكُفَّارِ ، فَجَعَلُوهَا عَلَى
المُؤْمِنِينَ " انتهى من " فتح الباري " ( 12 / 282 ) . .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج أنه
سأل نافعا كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية – وهو أحد أسماء الخوارج - ؟ قال : (
كان يراهم شرار خلق الله ، انطلقوا إلى آيات الكفار فجعلوها في المؤمنين ) . قلت :
وسنده صحيح " .
انتهى من " فتح الباري " ( 12 / 286 ) .
ثانيا :
قول ابن عمر رضي الله عنه هذا ، سببه أمران :
الأمر الأول : أن الخوارج كانوا أناساً جهلة اعتدوا على نصوص الشرع بأهوائهم
فتأولوا بعضها ، وأبطلوا بعضها الآخر ، فكان أن ابتدعوا قولاً في الدين خرجوا به عن
إجماع وجماعة المسلمين ، واتبعوا سبيلاً غير سبيل الصحابة والتابعين ، فأصل قضيتهم
وبلائهم في القرآن : أنهم تأولوه على غير تأويله ، ثم كفروا المسلمين بما ليس
مكفراً ، واستحلوا دماءهم بذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" .. والمقصود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إني تارك فيكم ثقلين : كتاب
الله ) ، فحض على كتاب الله ثم قال : ( وعترتي ، أهل بيتي ؛ أذكركم الله في أهل
بيتي ، ثلاثاً ) ؛ فوصى المسلمين بهم ، لم يجعلهم أئمة يرجع المسلمون إليهم ،
فانتحلت الخوارج كتاب الله ، وانتحلت الشيعة أهل البيت ، وكلاهما غير متبع لما
انتحله .
فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها ، وكفروا المؤمنين الذين أمر
القرآن بموالاتهم . ولهذا تأول سعد بن أبي وقاص فيهم هذه الآية ( وما يضل به إلا
الفاسقين * الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل
ويفسدون في الأرض ) ، وصاروا يتتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأويله
، من غير معرفة منهم بمعناه ، ولا رسوخ في العلم ، ولا اتباع للسنة ، ولا مراجعة
لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن .
وأما مخالفة الشيعة لأهل البيت فكثيرة جداً قد بسطت في مواضع . " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 7 / 481 – 482 ) .
الأمر الثاني : أن هؤلاء الخوارج يتصفون بقوة النفس والجرأة والجلد الذي يغري
الناظر إليهم ، ويعجب منه ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصفهم : (
يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ )
رواه البخاري ( 3610 ) ، ومسلم ( 1064 ) .
إلا أن قوة النفس هذه : قد استعملوها في الظلم والاعتداء على دماء المسلمين
وأعراضهم وأموالهم ، بناء على أصلهم الباطل في تكفير المسلمين بمجرد الذنوب ،
واستحلوا منهم مالم يستحلوه من الكفار .
وهذه صفات الخوارج في جميع الأمكنة والعصور .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" وقصدوا – أي الخوارج - بلاد العراق وخراسان ، فتفرقوا فيها بأبدانهم وأديانهم
ومذاهبهم ومسالكهم المختلفة المنتشرة ، التي لا تنضبط ولا تنحصر؛ لأنها مفرعة على
الجهل ، وقوة النفوس ، والاعتقاد الفاسد " انتهى من " البداية والنهاية " ( 11 /
667 – 668 ) .
ثالثاً :
قول ابن عمر رضي الله عنه هذا وأحاديث ذم الخوارج لم يفهم منها أحد من أهل العلم
أنه لا يجوز تكفير من يستحق التكفير ، ولا أن كل تكفير يصبح به المسلم خارجياً .
فالتكفير حكم من أحكام الله تعالى ، فقد حكم القرآن والسنة على بعض الأقوال
والأفعال أنها كفر وشرك ، وتكفير من يستحق التكفير هو سبيل المسلمين ، وها هي كتب
الفقه في جميع المذاهب تذكر عقوبة المرتد وهي القتل ، وتذكر في " باب المرتد " بعض
الأقوال والأفعال التي إذا فعلها المسلم : فإنه يكفر ويخرج من الإسلام .
لكن الفرق بين أهل السنة وبين الخوارج في هذه المسألة في أمور مهمة :
1- أن الخوارج يكفرون المسلم بمجرد فعله للذنوب ، أو بما ليس بمكفر ، بل وبما ليس
بذنب أصلا !! أما أهل السنة والجماعة فلا يكفرون بمجرد المعاصي والذنوب ، بل
عقيدتهم أن مرتكب الكبيرة لا يكفر ، لكنه ينقص إيمانه بقدر معاصيه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" ومن أصول أهل السنة : أن الدين والإيمان قول وعمل : قول القلب واللسان ، وعمل
القلب واللسان والجوارح ، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر ، كما يفعله الخوارج ؛ بل
الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي ، كما قال سبحانه وتعالى في آية القصاص : (
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ) وقال : (
وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى
تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ ) " انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 3 / 151 ) .
2- أن أهل السنة لا يحكمون على فعل أو قول بأنه كفر إلا بدليل واضح وصريح من الكتاب
والسنة .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
" فالواجِب قبل الحكم بالتَّكفير أن ينظر في أمرين : الأمر الأول : دلالة الكتاب
والسُّنَّة على أن هذا مُكَفِّر ؛ لئلاَّ يُفترى على الله الكذب .
الثاني: انطباق الحُكم على الشخص المُعَيَّن ؛ بحيث تتم شروط التكفير في حَقِّه ،
وتنتفي الموانع " انتهى من " مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " ( 2/ 134 ) .
3- يفرق أهل السنة بين حكم الفعل الكفري ، والقول الكفري ، وبين حكم فاعله وقائله ،
فقد يقوم الشخص بعمل كفري ، لكنه لا يكفر؛ لوجود مانع يمنع من تكفيره ، لأن المسلم
الذي يقول أو يفعل ما حكم الشرع بأنه كفر ، قد يكون معذوراً بالجهل ، أو الإكراه ،
أو عدم التعمد أو التأويل ، فالتكفير لا يطلق على شخص معين إلا إذا توفرت شروطه ،
وانعدمت موانعه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع = يقال هي كفر ، قولاً يطلق ، كما
دل على ذلك الدلائل الشرعية ؛ فإن " الإيمان " من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله
؛ ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم .
ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك ، بأنه كافر ، حتى يثبت في حقه شروط التكفير
وتنتفي موانعه ، مثل من قال : إن الخمر أو الربا حلال ؛ لقرب عهده بالإسلام ؛ أو
لنشوئه في بادية بعيدة ، أو سمع كلاما أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن ، ولا أنه من
أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده
أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها ، وكما كان الصحابة يشكون في أشياء ، مثل رؤية
الله وغير ذلك ، حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومثل الذي قال:
إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليمِّ ؛ لعلي أضل عن الله ، ونحو ذلك ؛ فإن هؤلاء
لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة ، كما قال الله تعالى : ( لِئَلَّا
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) وقد عفى الله لهذه
الأمة عن الخطأ والنسيان.. " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 35 / 165 – 166 ) .
ولمزيد الفائدة راجع الفتوى رقم : ( 85102 ) حول ضوابط التكفير .
رابعاً :
ما زالت العادة معروفةً عند أهل العلم من الصحابة ، فمن بعدهم ، أنهم يستدلون
بالنصوص والآثار الواردة أصالة في المشركين ، على من فعل مثل أفعالهم من المسلمين .
ومن أظهر الدلائل على ذلك :
حديث أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ
لَهَا : ذَاتُ أَنْوَاطٍ ، يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ ، فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ ؟
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( سُبْحَانَ اللهِ ؛ هَذَا
كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ؛
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ) .
رواه أحمد (21900) ، والترمذي (2180) ، وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ،
وصححه الألباني .
ولأجل ذلك ورد التحذير من مشابهة المشركين ، واتباع سبيل من قبلنا : اليهود
والنصارى ، وفارس والروم ؛ بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك كائن في أمته
لا محالة .
قال الإمام الطبري رحمه الله ، في شرح أثر موقوف على حذيفة رضي الله عنه في ذلك :
" وإنما أراد حذيفة بقوله : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ) أن أمة
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيتبعون آثار من قبلهم من الأمم حذو القذة بالقذة ،
وذلك كما يقدر باري السهام الريش التي يركبها عليها حتى يكون بعضها مساويا بعضا ،
متحاذيات غير مختلفات بالاعوجاج ، فكذلك أنتم أيتها الأمة ، في مشابهتكم من قبلكم
من الأمم فيما عملوا به في أديانهم ، وأحدثوا فيها من الأحداث ، وابتدعوا فيها من
البدع والضلالات ، تسلكون سبيلهم ، وتستنون في ذلك سنتهم " انتهى من " تهذيب
الآثار" (7/97ـ الشاملة) .
وفي صحيح البخاري (4425) : عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ، قَالَ : " لَقَدْ نَفَعَنِي
اللَّهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَيَّامَ الجَمَلِ ، بَعْدَ مَا كِدْتُ أَنْ أَلْحَقَ بِأَصْحَابِ
الجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ ، قَالَ : لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ ، قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ
كِسْرَى ، قَالَ : ( لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً ) " .
فانظر ، كيف أن أبا بكرة رضي الله عنه ، استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ،
على عدم اتباعه لأصحاب الجمل ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك أصالة
في فارس ، وهم كفار .
وقد روى المروزي في السنة (65) عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: " كُنَّا
عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَذَكَرُوا ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) [المائدة: 44] فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ :
إِنَّمَا هَذَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ : نِعْمَ الْأُخْوَةُ
لَكُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ كَانَ لَكُمُ الْحُلْوُ وَلَهُمُ الْمُرُّ ، كَلَّا
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تُحْذَى السُّنَّةُ بِالسُّنَّةِ حَذْوَ
الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ !! " .
ورواه أيضا : الطبري في تفسيره (12027) والحاكم في " المستدرك "(3218) .
والحاصل : أن كل من التزم بهذه الضوابط الشرعية ، فهو بعيد من الخوارج ومذهبهم ،
بُعْدَ طريقِ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، عن سبيل أهل البدع والضلالة .
والله أعلم .