عنوان الفتوى : المسجد الأقصى ليس هو الهيكل ولم يبن على أنقاضه
كنت على تواصل مع امرأة إسرائيلية في الآونة الأخيرة ، وأخبرتني بأن المسجد الأقصى بُني على أنقاض معبد يهودي بناه النبي سليمان عليه السلام ، فقلت لها: إنه إنما كان مسجداً منذ اليوم الأول ، فضحكت وقالت : لم يكن هناك إسلام في ذلك الوقت . فكيف يكون هناك مسجد ! وأن سليمان كان ملكاً يهودياً ، وكانت مملكته مملكة يهودية اسمها يهوذا ، وأن كل من وجد في ذلك الوقت كان يهودياً . فهل كل ما قالته صحيح ؟ وكيف ضل بنو إسرائيل وغيروا التوراة التي جاءهم بها موسى ، واستمروا على ضلالهم حتى بعد مجيء الكثير من الأنبياء كسليمان عليه السلام وغيره ؟ وما هو التأريخ الحقيقي للمسجد الأقصى ؟ وماذا كانت تعني مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل ؟
الحمد لله
أولا :
سبق في السؤال رقم : (230200) أن الهيكل
هو المعبد ، وأن ما يسميه اليهود بـ "هيكل سليمان" لا حقيقة له ، وإنما هو خرافة
وأكذوبة من أكاذيب اليهود .
وأن المعبد الذي ثبت أن سليمان عليه السلام بناه فعلاً هو المسجد الأقصى ، وكان
بناؤه له تجديدا لبنائه ، ولم يكن إنشاءً له لأول مرة .
ثانيا :
أول مسجد بني على وجه الأرض لعبادة الله تعالى وحده هو المسجد الحرام ، كما قال
تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً
وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) آل عمران/96 ، قال علي رضي الله عنه : كانت البيوت قبله،
ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله تعالى . " تفسير ابن كثير "(2/77).
ثم بعده بأربعين سنة بنى إبراهيم ، أو حفيده يعقوب عليهما السلام المسجد الأقصى .
وقد أخبرنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما رواه البخاري (3366) ،
ومسلم (520) عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه ، قَالَ : " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ
: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ ؟ قَالَ : ( الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ
) ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : ( الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ) قُلْتُ : كَمْ
بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : ( أَرْبَعُونَ سَنَةً ) " .
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :
" الظاهر أن إبراهيم لما مر ببلاد الشام ، ووعده الله أن يورث تلك الأرض نسله ،
عيَّن الله له الموضع الذي سيكون به أكبر مسجد تبنيه ذريته ، فأقام هنالك مسجدا
صغيرا ، شكرا لله تعالى ، وجعله على الصخرة المجعولة مذبحا للقربان . وهي الصخرة
التي بنى سليمان عليها المسجد ، فلما كان أهل ذلك البلد يومئذ مشركين دثر ذلك
البناء ، حتى هدى الله سليمان إلى إقامة المسجد الأقصى عليه . وهذا من العلم الذي
أهملته كتب اليهود " .
انتهى من " التحرير والتنوير " (4/15).
وقال ابن كثير رحمه الله :
"وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ : أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي
أَسَّسَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى ، وَهُوَ مَسْجِدُ إِيلِيَا، وَهُوَ مَسْجِدُ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَرَّفَهُ اللَّهُ .
وَهَذَا مُتَّجِهٌ ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحَدِيثِ" انتهى من "
البداية والنهاية " (1/375) .
وغني عن البيان أن يقال : إن
هذا المسجد (المسجد الأقصى) لم يُبْنَ على أنه معبد خاص باليهود ، بل بُنِيَ مسجدا
للمؤمنين الموحدين ، يعبدون الله تعالى فيه .
فالمؤمنون أتباع الأنبياء في كل عصر : هم الأحق بهذا المسجد ، حتى انتهت الرسالة
إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، فصار هو الأحق بهذا
المسجد ، لأنه لا يصح إيمان أحد ، ولا يعتد به ، بعد بعثته صلى الله عليه وسلم ،
إلا إذا آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، نبيا ورسولا ، واتبعه على ذلك .
وقد صلى رسولنا محمد صلى
الله عليه وسلم إماما بالأنبياء جميعا في هذا المسجد ، وذلك ليلة الإسراء والمعراج
.
وفي هذا إشارة إلى أن قيادة البشرية إلى التوحيد والدين الصحيح ، قد انتقلت إليه
صلى الله عليه وسلم ، وأن الواجب على جميع الناس – بمن فيهم أتباع الأنبياء
السابقين – أن يكونوا من أتباعه صلى الله عليه وسلم ، فصار هو الأحق بهذا المسجد ،
وورث أتباعه هذه الأحقية إلى قيام الساعة .
ثالثا :
القول بأنه لا يوجد مسجد قبل الإسلام ، قول باطل بلا شك ، فالإسلام (بمعنى توحيد
الله وطاعته) هو دين الأنبياء جميعا ، والبناء الذي يبنى للسجود لله تعالى فيه ،
والتعبد فيه : هو مسجد ، وهذه التسمية كانت معروفة قبل بعثة نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم .
فهذا المسجد المبارك لم يًبْنَ ، أولَ ما بُني ، لخصوصية الديانة اليهودية ، ولم
يُسمَّ في جميع النصوص القرآنية والنبوية باسم دور عبادة اليهود " الصلوات "، رغم
ورودها في القرآن الكريم في قوله تعالى : ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ) الحج/40.
قال ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة في معنى (الصلوات): إنها كنائس اليهود .
قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :
" الصلوات : جمع صلاة ، وهي هنا مراد بها كنائس اليهود ، معربة عن كلمة ( صلوثا )،
فلما عُرِّبت : جعلوا مكان الثاءِ تاءً، وجمعوها كذلك " انتهى من " التحرير
والتنوير " (17/278) .
فما يسميه القرآن الكريم (
مسجدا ) لا يمكن أن يكون بِيعةً نصرانية ، أو كنيسا يهوديا ، بل هو مسجد في مصطلح
ديانة الإسلام الأولى ، ملةِ إبراهيم الخليل عليه السلام . ولما ورثه اليهود
والنصارى من ملة التوحيد ، بقي على وصف ( المسجدية )، ولم ينتقل إلى كونه معبدا
خاصا بعبادة هاتين الديانتين .
حتى في عهود الأنبياء الكرام موسى وسليمان وعيسى... وغيرهم ، كان يسمى مسجدا؛ فليس
من حق أتباع هؤلاء الأنبياء مصادرة هذا الوصف المسجدي الأصلي الأول .
لذلك جاء في حديث الحارث
الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ ، فَقُعِدَ
عَلَى الشُّرَفِ ) رواه الإمام أحمد في " المسند " (28/404) وصححه المحققون .
وأيضا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ
سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ اللهَ ثَلَاثًا ، أَعْطَاهُ
اثْنَتَيْنِ ، وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ تَكُونَ لَهُ الثَّالِثَةُ : فَسَأَلَهُ
حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ ، فَأَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ . وَسَأَلَهُ مُلْكًا لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ . وَسَأَلَهُ أَيُّمَا
رَجُلٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ
[المسجد الأقصى] خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مِثْلَ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ .
فَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ) رواه
الإمام أحمد في " المسند " (11/220) وصححه المحققون .
وقد قال الله عز وجل حاكيا
عن أهل الكهف : ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ
عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) .
يقول الألوسي رحمه الله : " وظاهر ما تقدم أن المسجد اتُّخِذ لأن يعبد اللهَ تعالى
فيه من شاء " انتهى من " روح المعاني " (8/225) .
وقد كان أهل الكهف -على ما ذكره بعض المفسرين- نصارى .
وجاء في " المفصل في تاريخ
العرب قبل الإسلام " (11/ 177): " المسجد : من الألفاظ المعروفة عند الجاهليين ،
وهو البيت الذي يسجد فيه ، وكل موضع يتعبد فيه ، فهو مسجد " انتهى .
وذلك يعني أنه ليس ثمة أي خطأ في تسمية " المسجد الأقصى " قبل البعثة النبوية باسم
" المسجد "؛ وهو الاسم الذي سماه الله به في قوله تعالى : ( سُبْحَانَ الَّذِي
أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) الإسراء/1، ولما نزلت هذه الآية لم يعترض المشركون ، ولم
يقولوا : لا نعرف المسجد الأقصى، ولم ينكروا هذا الاسم ، مما يدل على أن هذه
التسمية كانت معروفة عندهم .
وبهذا نعلم أن المسجد الأقصى هو الاسم والمسمى الخالد إلى يوم القيامة بإذن الله ، وهو في الوقت نفسه الاسم التاريخي الذي سماه به الأنبياء .
رابعا :
أما القول بأن كل من كان موجودا في عهد سليمان عليه السلام فهو يهودي ، فهو قول لا
يقل في البطلان عن سابقه .
فالشريعة اليهودية ليست دينا عاما لكل البشر ، بل هي شريعة خاصة بجنس خاص من البشر
، وهم ذرية يعقوب عليه السلام .
ومنذ أن وجد يعقوب عليه
السلام كان يوجد معه أجناس أخرى من البشر ، من العرب وغيرهم ، واستمر الأمر على هذا
في جميع الأزمان ، في زمن يوسف ثم موسى ثم داود وسليمان ... ثم عيسى .
ففي كل هذه الأزمان كان يوجد الموحدون من غير اليهود .
وذلك كله من مسلمات الشريعة اليهودية التي تقرر خصوصية الديانة وليس عالميتها ،
وتسلم بأن كثيرا من الأمم والأقوام من حول اليهود كانوا من الموحدين على ملة
إبراهيم ، ولم يبعث إليهم موسى عليه السلام باليهودية .
ولكن المكابرة تجعل الإنسان ينكر المسلمات والحقائق ، ويجور في الحكم ، ليستر
الاحتلال والقتل والغصب ، ويروج للمشروع الصهيوني الإرهابي باسم الدين ، أو التاريخ
!!
خامسا :
أما مملكة يهوذا ، ومملكة إسرائيل ؛ فبعد وفاة سليمان عليه السلام اختلف أولاده ،
فانقسمت مملكته إلى مملكتين ، على كل مملكة أحد أبناء سليمان عليه السلام .
الأولى في الشمال ، وهي "مملكة إسرائيل" ، وتسمى أيضا : "مملكة السامرة" وعاصمتها
"شكيم" (نابلس) ، وملكها "يربعام" وقد بايعه أسباط بني إسرائيل ، إلا يهوذا
وبنيامين .
والثانية في الجنوب وهي "مملكة يهوذا" وعاصمتها "أورشليم" [القدس] وملكها "رصبعام"
، وقد بايعه سبطان من أسباط بني إسرائيل . وهما : يهوذا وبنيامين .
وقد دمرت وانتهت مملكة الشمال "إسرائيل" ، وذلك في عام 721 ق . م .
وفي عام 586 ق . م دخل القائد البابلي "نبوخذ نصر" (بختنصر) القدس ودمرها ، ودمر
الهيكل وأحرقه ، وأخذ معه آلافا من اليهود وسباهم إلى بابل ، فيما عرف في التاريخ
بالسبي البابلي الأول ، ثم عاد إليها ودمرها مرة أخرى ، فيما عرف بالسبي البابلي
الثاني ، وبه انتهت مملكة يهوذا .
ويسعى اليهود إلى استعادة مملكتهم وإعادة بناء الهيكل .
ورد في " دائرة المعارف البريطانية " طبعة 1926 م : " أن اليهود يتطلعون إلى اجتماع الشعب اليهودي في فلسطين ، واستعادة الدولة اليهودية ، وإعادة بناء الهيكل وإقامة عرش داود في القدس ثانية وعليه أمير من نسل داود " انتهى .
سادسا :
أما ضلال اليهود وتحريفهم للتوراة ، رغم مجيء الكثير من الأنبياء إليهم : فذلك أمر
واقع لا يخفى ؛ فقد ارتدوا عن التوحيد إلى الشرك بعد موت موسى عليه السلام عدة مرات
، وقد كان الله تعالى يبعث إليهم النبي من أنبيائه ، ليحيي شريعة التوراة ، ويقودهم
إلى التوحيد ، ولكنهم كانوا – في الغالب – يكذبون هؤلاء الأنبياء ويحاربونهم ، وقد
قتلوا بعضهم ، قال الله تعالى : (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى
أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)
البقرة/ 87.
وقد حرفوا كتابهم وزادوا فيه ونقصوا .
وانظر جواب السؤال رقم : (216734) .
والله أعلم .