عنوان الفتوى : فوائد من أثر عمر رضي الله عنه: يا صاحب الميزاب لا تخبره
أود أن أسأل عن أثر ورد عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فيما معناه أنه كان يمشي في طريق ومعه رجل آخر، ثم انسكب عليهم ماء، فنظر الرجل لأعلى وقال: أخبرنا يا من سكبت الماء هل هو طاهر أم لا؟ فقال سيدنا عمر: لا تخبرنا يا رجل. هل هو أثر صحيح؟ وإن كان كذلك هل يستفاد منه أننا عندما نشك في نجاسة بعض الأشياء أو المواد التي نستخدمها نيسر على أنفسنا ولا نبحث أصلا حيث إننا لا نعلم؟ وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد روى مالك في موطئه، وعبد الرزاق في مصنفه، والدارقطني والبيهقي في سننيهما من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: "يا صاحب الحوض! لا تخبرنا؛ فإنا نرد على السباع وترد علينا". ورجاله ثقات إلا إنه منقطع، وبذلك أعله ابن عبد الهادي في (تنقيح التحقيق). وضعفه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح.
وقال النووي في (المجموع): هذا الأثر إسناده صحيح إلى يحيى بن عبد الرحمن، لكنه مرسل منقطع؛ فإن يحيى وإن كان ثقة فلم يدرك عمر بل ولد في خلافة عثمان، هذا هو الصواب. قال يحيى بن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عمر باطل. وكذا قاله غير ابن معين. إلا أن هذا المرسل له شواهد تقويه. والمرسل عند الشافعي إذا اعتضد احتج به .. وهو حجة عند أبي حنيفة مطلقا، فيحتج به عليهم. اهـ.
وقد أخرج أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب (الطهور) شاهدين مرسلين لهذا الأثر، الأول عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه. والثاني عن عكرمة.
وأما الأثر بذكر الميزاب فلم نطلع عليه في الكتب المسندة، ولكن ذكره بعض أهل العلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الاحتياط بمجرد الشك في أمور المياه ليس مستحبا ولا مشروعا، بل ولا يستحب السؤال عن ذلك. بل المشروع أن يبنى الأمر على الاستصحاب، فإن قام دليل على النجاسة نجسناه، وإلا فلا يستحب أن يجتنب استعماله بمجرد احتمال النجاسة ... وقد ثبت: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - توضأ من جرة نصرانية مع قيام هذا الاحتمال. ومر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وصاحب له بميزاب، فقال صاحبه: يا صاحب الميزاب: ماؤك طاهر أم نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب لا تخبره؛ فإن هذا ليس عليه. وقد نص على هذه المسألة الأئمة: كأحمد وغيره، نصوا على: أنه إذا سقط عليه ماء من ميزاب ونحوه، ولا أمارة تدل على النجاسة لم يلزم السؤال عنه، بل يكره. اهـ.
وقال في موضع آخر: النجاسة لا يستحب البحث عما لم يظهر منها، ولا الاحتراز عما ليس عليه دليل ظاهر، لاحتمال وجوده، فإن كان قد قال طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: إنه يستحب الاحتراز عن الشكوك فيه مطلقا، فهو قول ضعيف. وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ وذكر أثر الميزاب ثم قال : ـ وهذا قد ينبني على أصل، وهو: أن النجاسة إنما يثبت حكمها مع العلم، فلو صلى وببدنه أو ثيابه نجاسة ولم يعلم بها إلا بعد الصلاة، لم تجب عليه الإعادة في أصح قولي العلماء، وهو مذهب مالك وغيره، وأحمد في أقوى الروايتين، وسواء كان علمها ثم نسيها؛ أو جهلها ابتداء. اهـ.
وسئل رحمه الله عن من وقع على ثيابه ماء من طاقة ما يدري ما هو، فهل يجب غسله أم لا؟
فأجاب: لا يجب غسله، بل ولا يستحب على الصحيح، وكذلك لا يستحب السؤال عنه على الصحيح، فقد مر عمر بن الخطاب ـ وذكر الأثر ـ اهـ.
وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان): لو سقط عليه شيء من ميزاب، لا يدرى هل هو ماء أو بول. لم يجب عليه أن يسأل عنه. فلو سأل لم يجب على المسؤول أن يجيبه ولو علم أنه نجس، ولا يجب عليه غسل ذلك. ومر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوماً فسقط عليه شيء من ميزاب ـ فذكره ـ اهـ.
وقد استدل الشيخ ابن عثيمين بأثر عمر هذا على أن اليقين لا يزول بالشك؛ وراجعي في ذلك الفتوى رقم: 166703. فالأصل في الأشياء الطهارة، ما لم يحصل اليقين بخلاف ذلك، ولا يحكم بنجاسة شيء بمجرد الشك، وقد سبق لنا بيان ذلك في عدة فتاوى، منها الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 125163، 49637، 95417، 60663، 96403.
والله أعلم.