عنوان الفتوى : من لم تبلغه الدعوة ، بسبب عاهة كالصمم فإنه يمتحن يوم القيامة ، ومن بلغته منهم لم يمتحن .
في الحديث النبوي الشريف قال عليه الصلاة والسلام : ( أربعةٌ يحتجون يومَ القيامةِ : رجلٌ أصمُّ لا يسمعُ شيئًا ......." سؤالي : ما الحكمة أن الأصم يمتحن يوم القيامة دون الأبكم والأعمى ، يعني الأصم يمكن أن تصله الدعوة عن طريق الكتابة أو ربما هناك طرق أخرى ؟ وهل من أقوال للعلماء على هذا الحديث ؟
الحمد لله
أولا :
روى الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (16301) عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ ،
أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَرْبَعَةٌ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ : رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ ، وَرَجُلٌ
هَرَمٌ ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ ، فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ،
لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ
فَيَقُولُ: رَبِّ ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي
بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ
وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ،
مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ ،
فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ ادْخُلُوا النَّارَ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ
مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا )
وحسنه محققو المسند ، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1434) وله شواهد متعددة ، ذكرها
ابن كثير في تفسيره (5/50-53) .
والمقصود من ذكر الأصم والأحمق وغيرهما : ذكر من لم تقم عليه الحجة بسبب ما أصابه
من عاهة أو غير ذلك ، فكل من أصابه شيء يمنع من إقامة الحجة عليه فإنه يكون معذورا
ويمتحن يوم القيامة .
وقد جاء ذكر الأبكم مع الأصم في الحديث :
قال الحافظ السيوطي رحمه الله : " أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن
أبي حاتم، عن أبي هريرة قال: " إذا كان يوم القيامة ، جمع الله أهل الفترة ،
والمعتوه ، والأصم ، والأبكم ، والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام ، ثم أرسل إليهم
رسولا أن ادخلوا النار، فيقولون: كيف ولم تأتنا رسل ؟ قال: وايم الله ، لو دخلوها
لكانت عليهم بردا وسلاما، ثم يرسل إليهم ، فيطيعه من كان يريد أن يطيعه ، قال أبو
هريرة: اقرءوا إن شئتم [وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا] الإسراء/ 15 ). إسناده صحيح
على شرط الشيخين ، ومثله لا يقال من قبل الرأي ، فله حكم الرفع " .
انتهى من "الحاوي" (2/ 247) .
أما الأعمى : فحاله أهون منهما ، لأنه يسمع ويتكلم ويدرك إدراكا صحيحا ، ولا يكاد
يحول عماه عن إقامة الحجة عليه .
وبكل حال : فمن حالت عاهته دون قيام الحجة عليه فهو معذور ، سواء كان أبكم أو أصم
أو غير ذلك .
ومن لم تحل عاهته دون قيام الحجة عليه فليس بمعذور.
ومن كانت عاهته تؤثر على إدراكه في أشياء دون أشياء فهو معذور فيما لا يدركه ، وغير
معذور فما يدركه .
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : الأصم الأبكم ، هل هو مكلف مثل غيره من
المسلمين؟
فأجاب :
" الأصم الأبكم من فقد حاستين من حواسه ، وهما السمع والنطق ، ولكن بقي عليه النظر،
فما كان يدركه من دين الإسلام بالنظر؛ فإنه لا يسقط عنه، وما كان لا يدركه ؛ فإنه
يسقط عنه ، أما ما كان طريقه السمع إذا كان لا يدركه بالإشارة فإنه يسقط عنه، وعلى
هذا فإذا كان لا يفهم شيئاً من الدين فإننا نقول: إذا كان أبواه مسلمين أو أبوه أو
أمه فهو مسلم تبعاً لهما، وإن كان بالغاً عاقلاً مستقلاً بنفسه فأمره إلى الله ،
لكنه ما دام يعيش بين المسلمين فإننا نحكم له ظاهراً بالإسلام ، يعلم بعض الأشياء
بالإشارة ، وأنا أعرف الذين في معهد الصم والبكم في الرياض يعرفون بالإشارة أسرع من
النطق ؛ لأن هناك أناساً يترجمون لهم بالإشارة فيفهمون منهم مباشرة " انتهى من
"لقاء الباب المفتوح" (11/ 22) بترقيم الشاملة .
فإذا وصلت الدعوة إلى الأبكم
أو الأصم أو غيرهما عن طريق الكتابة أو الإشارة ، بحيث تكون الحجة قد أقيمت عليه ،
وفهم ما يقال له ، وتبين له طريق الهدى من طريق الضلالة : فإنه لا يكون معذورا .
قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر الأحاديث التي فيها امتحان هؤلاء يوم القيامة :
" هِيَ الْمُوَافِقَةُ لِلْقُرْآنِ ، وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ ، فَهِيَ تَفْصِيلٌ
لِمَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ
قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ اللَّهِ
فِي الدُّنْيَا ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُقِيمَ حُجَّتَهُ عَلَيْهِمْ ، وَأَحَقُّ
الْمَوَاطِنِ أَنْ تُقَامَ فِيهِ الْحُجَّةُ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ،
وَتُسْمَعُ الدَّعَاوَى ، وَتُقَامُ الْبَيِّنَاتُ، وَيَخْتَصِمُ النَّاسُ بَيْنَ
يَدَيِ الرَّبِّ ، وَيَنْطِقُ كُلُّ أَحَدٍ بِحُجَّتِهِ وَمَعْذِرَتِهِ ، فَلَا
تَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَتَنْفَعُ غَيرهُمْ " انتهى من "أحكام أهل
الذمة" (2/ 1149) .
فالمعيار هو قيام الحجة ممن قامت عليه الحجة فلا عذر له ، ومن لم تقم عليه الحجة ،
فإنه يكون معذورا .
ثانياً :
من كان من هؤلاء من أولاد المسلمين : فهم تبع لآبائهم ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله :
" حُكْمُ الْمَجْنُونِ حُكْمُ الطِّفْلِ إذَا كَانَ أَبَوَاهُ مُسْلِمَيْنِ كَانَ
مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَلِكَ إذَا
كَانَتْ أُمُّهُ مُسْلِمَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ، وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ بَعْدَ إسْلَامِهِ يَثْبُتُ
لَهُمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ
الَّذِي وُلِدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يُحْكَمُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ ظَاهِرًا
تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِأَهْلِ الدَّارِ كَمَا يُحْكَمُ بِذَلِكَ
لِلْأَطْفَالِ ، لَا لِأَجْلِ إيمَانٍ قَامَ بِهِ ، فَأَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ
وَمَجَانِينُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ " انتهى من "مجموع
الفتاوى" (10/ 437) .
راجع للفائدة إجابة السؤال رقم : (147146)
.
والله أعلم .