عنوان الفتوى : التأويل الصحيح لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ...
يقول الله عز وجل: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) فهل هذا يعني أن من غير المسلمين من سيدخل الجنة ؟ وما حكم من كان من أهل الكتاب وآمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، وتبرأ من كل شرك وتحريف في عقيدته، وبقي على ما هو صحيح منها من صلاة، وصوم وعبادات كانت تخص الشرائع التي جاء بها موسى وعيسى عليهما السلام ؟ جزاكم الله خيرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]. لا يدل على صحة إيمان غير المسلمين المتبعين للقرآن، وللنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، فإن معناها أن هؤلاء الأصناف المذكورين في الآية من كان منهم متبعا لشريعة نبي زمانه، ومات على ذلك قبل بعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، فلا يضره ذلك، وهو من أهل النجاة، كمن بقي حتى أدرك النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وآمن به، وعمل صالحا باتباع شريعته الناسخة.
قال الجلال المحلي: {إن الذين آمنوا} بالأنبياء من قبل {والذين هادوا} هم اليهود {والنصارى والصابئين} طائفة من اليهود أو النصارى {من آمن} منهم {بالله واليوم الآخر} في زمن نبينا {وعمل صالحا} بشريعته {فلهم أجرهم} أي ثواب أعمالهم. اهـ.
وقال السعدي في تفسيره: الصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف من حيث هم، لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وأن هذا مضمون أحوالهم، وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النفوس عند سياق الآيات بعض الأوهام، فلا بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم، لأنه تنزيل مَنْ يعلم الأشياء قبل وجودها، ومَنْ رحمته وسعت كل شيء. وذلك ـ والله أعلم - أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم، وذكر معاصيهم وقبائحهم، ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم، فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه، ولما كان أيضا ذكر بني إسرائيل خاصة يوهم الاختصاص بهم. ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها، ليتضح الحق ويزول التوهم والإشكال، فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين. اهـ.
وقال الجزائري في تفسير هذه الآية: الإيمان الصحيح لا يتم لأحد إلا بالإيمان بالنبي الخاتم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والعمل الصالح لا يكون إلا بما جاء به النبي الخاتم في كتابه وما أوحى إليه، إذ بشريعته نسخ الله سائر الشرائع قبله، وبالنسخ بطل مفعولها فهي لا تزكي النفس ولا تطهرها. والسعادة الأخروية متوقفة على زكاة النفس وطهارتها. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتويين: 193741، 2924.
وأما من آمن من أهل الكتاب بالرسول صلى الله عليه وسلم، وتبرأ من كل شرك وتحريف في عقيدته، وبقي على ما هو صحيح منها من صلاة، وصوم، وعبادات كانت تخص الشرائع، فهذا لا يصح إسلامه، ولا ينفعه إيمانه، وهو في الآخرة من الخاسرين، حتى يعتقد لزوم اتباع الشريعة الناسخة، وأنه لا يسعه اتباع شيء من الشرائع المنسوخة !!
قال ابن حزم في (الإحكام): لا خلاف بين اثنين من المسلمين أن هذا منسوخ، وأن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأت بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام، فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: مثل أن يقال: نُسَخُ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر. فهذا الكلام ونحوه حق. اهـ.
وقال ابن القيم في (أحكام أهل الذمة): قالوا: وقد جاء القرآن وصحَّ الإجماع بأنَّ دين الإسلام نَسَخَ كل دين كان قبله، وأنَّ من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنَّه كافر، وقد أبطل الله كلَّ شريعة كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل، وافترض على الجن والإنس شرائع الإسلام؛ فلا حرام إلا ما حرمه الإسلام، ولا فرض إلا ما أوجبه الإسلام. اهـ.
وقال ابن كثير في (البداية والنهاية): من ترك الشرع المحكم المنزل على محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة؛ كفر. فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين. اهـ.
وقال الشيخ ابن باز في (نواقض الإسلام): اعلم أيها الأخ المسلم أن الله سبحانه أوجب على جميع العباد الدخول في الإسلام والتمسك به، والحذر مما يخالفه، وبعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى ذلك، وأخبر عز وجل أن من اتبعه فقد اهتدى، ومن أعرض عنه فقد ضل، وحذر في آيات كثيرة من أسباب الردة وسائر أنواع الشرك والكفر، وذكر العلماء -رحمهم الله- في باب حكم المرتد أن المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله، ويكون بها خارجا من الإسلام، ومن أخطرها وأكثرها وقوعا عشرة نواقض ... التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتويين: 59239، 97877.
والله أعلم.