عنوان الفتوى : الغفلة عن نية التقرب إلى الله
هل يؤثر عدم استحضار نية التقرب إلى الله على صحة العمل ، أم ينقص من الأجر فقط ، فإن نوى شخصٌ الغسلَ بنية الدخول في الإسلام ، أو رفع الحدث الأكبر ، وغفل عن نية التقرب إلى الله فهل يصح غُسلُه ؟
الحمد لله
أولا :
لا شك أن تصحيح النية ، واستحضارها في بداية العمل ، من أعظم ما ينبغي أن يشتغل به العابد ، فإن عليها مدار قبول العمل أو رده ، وعليها مدار صلاح القلب أو فساده ؛ فإن القلب لا يصلح إلا بأن يكون عمله وسعيه لله خالصا مما سواه .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ) متفق عليه .
قال النووي رحمه الله :
" أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِظَمِ مَوْقِعِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ وَصِحَّتِهِ ...
ثم قال :
قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْأُصُولِ وَغَيْرُهُمْ : لَفْظَةُ ( إِنَّمَا ) مَوْضُوعَةٌ لِلْحَصْرِ ، تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ ، وَتَنْفِي مَا سِوَاهُ . فَتَقْدِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ : إِنَّ الْأَعْمَالَ تُحْسَبُ بِنِيَّةٍ ، وَلَا تُحْسَبُ إِذَا كَانَتْ بِلَا نِيَّةٍ . وَفِيهِ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ ، وَهِيَ الْوُضُوءُ ، وَالْغُسْلُ وَالتَّيَمُّمُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالِاعْتِكَافُ وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ " انتهى من " شرح مسلم للنووي " (13/47) .
وقال ابن رجب رحمه الله :
" وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى إِخْبَارٌ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ إِلَّا مَا نَوَاهُ بِهِ ، فَإِنْ نَوَى خَيْرًا حَصَلَ لَهُ خَيْرٌ ، وَإِنْ نَوَى بِهِ شَرًّا حَصَلَ لَهُ شَرٌّ ، وَلَيْسَ هَذَا تَكْرِيرًا مَحْضًا لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى ، فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى أَنَّ صَلَاحَ الْعَمَلِ وَفَسَادَهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِيجَادِهِ ، وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ الْعَامِلِ عَلَى عَمَلِهِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ الصَّالِحَةِ ، وَأَنَّ عِقَابَهُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ الْفَاسِدَةِ ، وَقَدْ تَكُونُ نِيَّتُهُ مُبَاحَةً ، فَيَكُونُ الْعَمَلُ مُبَاحًا ، فَلَا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ ، فَالْعَمَلُ فِي نَفْسِهِ صَلَاحُهُ وَفَسَادُهُ وَإِبَاحَتُهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الْحَامِلَةِ عَلَيْهِ ، الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُودِهِ ، وَثَوَابُ الْعَامِلِ وَعِقَابُهُ وَسَلَامَتُهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الَّتِي بِهَا صَارَ الْعَمَلُ صَالِحًا ، أَوْ فَاسِدًا ، أَوْ مُبَاحًا " انتهى من " جامع العلوم والحكم " (1/65) ، وينظر : "إعلام الموقعين" (3/91) .
ثانيا :
النية التي عليها مدار الصحة والفساد ، والتي يذكرها الفقهاء : هي نية تمييز العمل عما سواه ، وأما النية التي عليها مدار قبول العمل أو رده : فهي قصد تمييز " المعمول له " ، المعبود ، عمن سواه ، وهي التي يعبَّر عنها بالإخلاص .
قال ابن رجب رحمه الله :
" وَاعْلَمْ أَنَّ النِّيَّةَ فِي اللُّغَةِ نَوْعٌ مِنَ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فُرِّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ .
وَالنِّيَّةُ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ تَقَعُ بِمَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : بِمَعْنَى تَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ ، كَتَمْيِيزِ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَثَلًا ، وَتَمْيِيزِ صِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ صِيَامِ غَيْرِهِ ، أَوْ تَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْعَادَاتِ ، كَتَمْيِيزِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ مِنْ غُسْلِ التَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَهَذِهِ النِّيَّةُ هِيَ الَّتِي تُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِهِمْ .
وَالْمَعْنَى الثَّانِي : بِمَعْنَى تَمْيِيزِ الْمَقْصُودِ بِالْعَمَلِ ، وَهَلْ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، أَمْ غَيْرُهُ ، أَمِ اللَّهُ وَغَيْرُهُ ، وَهَذِهِ النِّيَّةُ هِيَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا الْعَارِفُونَ فِي كُتُبِهِمْ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَتَوَابِعِهِ ، وَهِيَ الَّتِي تُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ " انتهى من " جامع العلوم والحكم " (1/65) .
فحاصل ذلك :
أن النية التي يتوقف عليها صحة العمل : هي تمييز هذا العمل الذي يريده المكلف ؛ فيميز غسل الجنابة ، من غسل التنظف أو التبرد ، ونحو ذلك .
وهذا هو المطلوب في تصحيح العمل .
وأما نية التقرب ، فهي مما يتفاوت فيه الناس تفاوتا عظيما ، وبحسب تحقيقها وإخلاصها يكون قدر العامل وعمله عند الله .
ولا يلزم في ذلك أن يستحضر العامل نية " التقرب " ، بخصوص ذلك اللفظ ، بل لو نوى " العبادة " ، أو " التعبد لله " أو طاعته ، أو التزام أمره ، ونحو ذلك من المقاصد الشرعية الصحيحة : فهي كافية .
ينظر : " الموسوعة الفقهية " (33/92) وما بعدها ، " مقاصد المكلفين " للأشقر (50-56) .
ولعله لذلك ذهب من ذهب من الفقهاء إلى أنه لا يشترط نية " التقرب " في العمل ، بخصوصها ؛ بل يكفي أن ينوي العمل المعين ، أو العبادة المعينة ، مع تمييزها عن غيرها .
ينظر : " التلخيص في أصول الفقه " للجويني (1/486) ، " المستصفى من علم الأصول " للغزالي (1/62) .
وهذه النية المطلوبة في تصحيح العمل : عادة ما تكون حاصلة في قلب العبد عند عمله ؛ وإلا فما الذي يدفع من أراد الدخول في الإسلام : إلى الغسل ، وما الذي يدفع الحائض إذا طهرت إلى الغسل ، لا سيما في البرد الشديد ؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَكُونُ فِي قَلْبِهِ مَعَارِفُ وَإِرَادَاتٌ ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهَا فِي قَلْبِهِ ، فَوُجُودُ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ شَيْءٌ ، وَالدِّرَايَةُ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ ; وَلِهَذَا يُوجَدُ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَطْلُبُ تَحْصِيلَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي قَلْبِهِ ، فَتَرَاهُ يَتْعَبُ تَعَبًا كَثِيرًا لِجَهْلِهِ ، وَهَذَا كَالْمُوَسْوَسِ فِي الصَّلَاةِ ; فَإِنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا بِاخْتِيَارِهِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ ، وَوُجُودُ ذَلِكَ بِدُونِ النِّيَّةِ - الَّتِي هِيَ الْإِرَادَةُ – مُمْتَنِعٌ ، فَمَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فَطَلَبُ مِثْلِ هَذَا لِتَحْصِيلِ النِّيَّةِ مِنْ جَهْلِهِ بِحَقِيقَةِ النِّيَّةِ وَوُجُودِهَا فِي نَفْسِهِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّوْمِ ، وَهُوَ مُرِيدٌ لِلصَّوْمِ ، فَهَذَا نِيَّةُ الصَّوْمِ . وَهُوَ حِينَ يَتَعَشَّى يَتَعَشَّى عَشَاءَ مَنْ يُرِيدُ الصَّوْمَ ، وَلِهَذَا يُفَرِّقُ بَيْنَ عَشَاءِ لَيْلَةِ الْعِيدِ ، وَعِشَاءِ لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَلَيْلَةُ الْعِيدِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصُومُ ، فَلَا يُرِيدُ الصَّوْمَ وَلَا يَنْوِيهِ ، وَلَا يَتَعَشَّى عَشَاءَ مَنْ يُرِيدُ الصَّوْمَ .
وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ ، وَيَمْشِي وَيَرْكَبُ ، وَيَلْبَسُ ، إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَهَا ، وَهَذِهِ نِيَّتُهَا ، فَلَوْ قَالَ بِلِسَانِهِ : أُرِيدُ أَنْ أَضَعَ يَدِيَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ لِآخُذَ لُقْمَةً آكُلُهَا ، كَانَ أَحْمَقَ عِنْدَ النَّاسِ . فَهَكَذَا مَنْ يَتَكَلَّمُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَالصِّيَامِ " انتهى من " منهاج السنة النبوية " (5/398-399) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" النية قصد فعل الشيء ، فكل عازم على فعل فهو ناويه ، لا يتصور انفكاك ذلك عن النية فإنه حقيقتها ، فلا يمكن عدمها في حال وجودها ، ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء ، ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة ، ولا يكاد العاقل يفعل شيئاً من العبادات ولا غيرها بغير نية ، فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة ، لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل . ولو أراد إخلاء أفعاله الاختيارية عن نيته لعجز عن ذلك . ولو كلفه الله عز وجل الصلاة والوضوء بغير نية لكلفه ما لا يطيق ، ولا يدخل تحت وسعه " انتهى من " إغاثة اللهفان " (1/137) .
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |