عنوان الفتوى : ( الرحمن على العرش استوى ) حقيقة لا مجازا .

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

نرى في القرآن العديد من الآيات التي تصف الله بأنه سبحانه فوق عرشه ؛ كما في سورة الملك ، وطه ، بالإضافة إلى سؤال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية أين الله ، هل الله فوق العرش حقيقة أم مجازاً؟ سبب سؤالي هو وجود العديد من تراجم معاني القرآن المختلفة ، فهل يوجد أي حديث أو تفسير لابن عباس (رضي الله عنهما) حبر القرآن يمكن منه معرفة إن كان ذلك من باب المجاز أم لا ؟

مدة قراءة الإجابة : 9 دقائق


الحمد لله
أولا :
أثبت الله تعالى لنفسه صفة " الاستواء على العرش " في أكثر من موضع من القرآن ، فقال تعالى : ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) طه/ 5 ، وقال تعالى : ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ ) الأعراف/ 54 ، يونس/ 3 ، الرعد/ 2 ، الفرقان/ 59 ، السجدة/ 4 ، الحديد/ 4 .

فالاستواء صفة فعلية للرب تعالى ، أثبتها له أهل السنَّة والجماعة ، على الوجه اللائق به عز وجل ، من غير تحريف لمعناها ، كما يقول من يقول : إن معناه : "الاستيلاء" ! ، ولا تمثيل لها باستواء المخلوق ، فإن الله جل جلاله لا يشبهه أحد في ذاته ، ولا يشبهه أحد في صفاته .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
" أصل الاستواء على العرش : ثابت بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمة السنة ، بل هو ثابت في كل كتاب أنزل ، على كل نبي أرسل " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 2 / 188 ) .
ويقول الإمام محمد ابن إسحاق بن خزيمة رحمه الله : " فنحن نؤمن بخبر الله جل وعلا : أن خالقنا مستو على عرشه ؛ لا نبدل كلام الله ، ولا نقول قولا غير الذى قيل لنا ؛ كما قالت المعطلة الجهمية : إنه استولى على عرشه ، لا استوى ؛ فبدلوا قولا غير الذى قيل لهم ، كفِعْل اليهود : لما أمروا أن يقولوا : حِطَّة ، فقالوا : حنطة ؛ مخالفين لأمر الله جل وعلا ، كذلك الجهمية" انتهى من "التوحيد" (1/233) .
ويقول الإمام أبو الحسن علي بن مهدي الطبري ، وهو من شيوخ الأشاعرة الأولين : (ت: 380هـ) :
" ومما يدل على أن الاستواء ـ ههنا ـ ليس بالاستيلاء : أنه لو كان كذلك ، لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه ، إذ هو مستول على العرش على سائر خلقه ، وليس للعرش مزية على ما وصفته " .
انتهى من "تأويل الآيات المشكلة" لابن مهدي (178) .

فنؤمن بأن الله تعالى قد استوى على العرش ، استواء حقيقيا يليق بجلاله سبحانه، ليس كاستواء البشر ، ولكن كيفية الاستواء مجهولة بالنسبة لنا ؛ ولذا ، فإننا نفوض كيفيته إلى الله ، كما قال الإمام مالك وغيره لما سئل عن الاستواء : "الاستواء معلوم، والكيف مجهول" ، انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/25) .

قال الإمام الدارمي رحمه الله ، تعليقا على قول الإمام مالك السابق :
" وصدق مالك ؛ لا يُعقَل منه كيف ، ولا يُجهل منه الاستواء ، والقرآن ينطق ببعض ذلك في غير آية " انتهى من " الرد على الجهمية " (ص/105) .

وقال الإمام يحي بن عبد العزيز الكناني ، رحمه الله :
" أما قولك : كيف استوى ؛ فإن الله لا يجري عليه : (كيف) ؛ وقد أخبرنا أنه استوى على العرش ، ولم يخبرنا كيف استوى ؛ فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش ، وحرُم عليهم أن يصفوا كيف استوى ؛ لأنه لم يخبرهم كيف ذلك ، ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت ، وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون ؛ فآمنوا بخبره عن الاستواء ، ثم ردوا علم (كيف استوى) إلى الله" انتهى ، نقله ابن تيمية في "درء تعارض العقل والنقل" (6/118) .

ثانيا :
أجمع سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين إثبات الصفات الواردة لله تعالى في الكتاب والسنة على الحقيقة لا المجاز ، قال ابن عبد البر رحمه الله :
" أهل السنة مجمعون عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يُكَيِّفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً ، وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ كُلُّهَا وَالْخَوَارِجُ فَكُلُّهُمْ يُنْكِرُهَا وَلَا يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ ، وَهُمْ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهَا نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ ، وَالْحَقُّ فِيمَا قَالَهُ الْقَائِلُونَ بِمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَهُمْ أَئِمَّةُ الْجَمَاعَةِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ " انتهى من " التمهيد" (7/ 145) .
وانظر جواب السؤال رقم : (151794) .
ثالثا :
روى الحاكم (3116) ، والطبراني في " المعجم الكبير" (12404) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ : " الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ ، وَالْعَرْشُ لَا يُقْدَرُ قَدْرُهُ "
وقال الحاكم عقبه : " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ " ووافقه الذهبي .
ورواه عبد الله بن أحمد في "السنة" (590) ولفظه : " إِنَّ الْكُرْسِيَّ الَّذِي وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمَوْضِعُ قَدَمَيْهِ ، وَمَا يُقَدِّرُ قَدْرَ الْعَرْشِ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُ " .
وقال أبو منصور الأزهري رحمه الله في "التهذيب" (10/ 33):
" الصحيحُ عَن ابْن عَبَّاس فِي الكُرْسِيّ مَا رواهُ الثَّوْريُّ وغيرهُ عَن عمارٍ الدُّهْنِي عَن مُسْلمٍ البَطِينِ عَن سعيد بن جُبَيْرٍ عَن ابْن عباسٍ أَنه قَالَ: " الكُرْسِيُّ: موضعُ القدمينِ ، وأَما العَرْشُ فإنَّهُ لَا يُقدرُ قدرهُ " وَهَذِه روايةٌ اتفقَ أَهْلُ العلمِ على صِحتها "
انتهى ، وينظر : " البداية والنهاية " لابن كثير (1/ 13) ، " الإبانة الكبرى" لابن بطة (7/ 325) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" العرش هو ما استوى عليه الله تعالى ، والكرسي موضع قدميه ؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: " الكرسي موضع القدمين ، والعرش لا يقدر أحد قدره " .
انتهى من" مجموع فتاوى ورسائل العثيمين " (5/ 34) .
فقول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى : ( وسع كرسيه السموات والأرض ) : " الكرسي موضع القدمين " يدل دلالة واضحة على أن الاستواء حقيقي وليس مجازيا .

ولهذا قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله : " وهو بنفسه على العرش ، بكماله ، كما وصف " انتهى من "الرد على الجهمية" (ص/55) .
وقال ابن القزويني رحمه الله : " ومن قال : العرش ملك ، أو الكرسي ليس بالكرسي الذي يعرف الناس : فهو مبتدع " انتهى ، نقله "قوام السنة الأصبهاني" في "الحجة" (1/249) .

وأما اختلاف ترجمات القرآن الكريم في ذلك ، فهي كاختلاف تفاسيره بالعربية ، وأولى من ذلك ؛ فإن التفسير بالعربية يختلف بحسب فهم المفسر ، وتأثره بمذهبه العقدي ، وفكره الكلامي ، ثم قدرته على التعبير عن ذلك بعبارة مطابقة لما يعتقده ، وهذا كله موجود في المترجم ، وأعقد من ذلك ، فإنه ينقل من لغة إلى لغة ، ومعلوم ما يكتنف ذلك من الصعوبات والمشكلات .

وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (12290) .

والله تعالى أعلم .