عنوان الفتوى : الفرح الممدوح والفرح المذموم
في البداية: أحمد الله حمدًا كثيرًا على كل شيء, وعلى كل حال. منذ عدة أيام، أنعم الله سبحانه عليّ وعلى أبوي وإخوتي بأخبار سارة، فقد رزقت أختي مولودًا جديدًا، وأخي تفوق في الثانوية، ورزقنا بيتًا جديدًا، ونحن جميعًا في قمة الفرح - فرح لا يتصوره عقل - وأنا خائفة من كل هذا؛ لأن الله سبحانه لا يحب الفرحين، وأخاف أن يكون المضمون ابتلاءً, أو انتقامًا من شيء ما، لكن كيف أعلم أنه كذلك؟ وماذا أفعل - جزاكم الله خيرًا كثيرًا -؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الفرح مشروع لمن أصابته نعماء من ربه وخير، فالمؤمن إن أصابته نعماء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وله في كليهما خير، كما في الحديث: عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له. رواه مسلم.
وقد قال تعالى عن نعمة الإسلام: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا {يونس:58}، ولما قضى ابن مسعود فيمن تزوجت ولم يسمَّ صداقها حتى مات زوجها، قيل له: إن ذلك وافق قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففرح. وعند أبي داود: ففرح عبد الله بن مسعود فرحًا شديدًا حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند ابن حبان: ففرح عبد الله بذلك، وكبَّر.
وكذلك الفرح بالمولود مشروع مستفيض عن السلف، بل قال ابن حجر العسقلاني في ولادة عبد الله بن الزبير: ووقع عند الإسماعيلي من الزيادة من طريق عبد الله بن الرومي عن أبي أسامة بعد قوله في الإسلام: "ففرح المسلمون فرحًا شديدًا؛ لأن اليهود كانوا يقولون: سحرناهم حتى لا يولد لهم". ففرحوا بمن وُلد وبمن سيولد، لما علموا بطلان سحر يهود.
وفي الحديث: للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه. رواه الشيخان وغيرهما. قال ابن حجر في الفتح: قال القرطبي: معناه: فرِحَ بزوال جوعه وعطشه حيث أبيح له الفطر, وهذا الفرح طبيعي, ثم قال: قلت: ولا مانع من الحمل على ما هو أعم مما ذكر، ففرح كل أحد بحسبه لاختلاف مقامات الناس في ذلك، فمنهم من يكون فرحه مباحًا, وهو الطبيعي، ومنهم من يكون - أي فرحه - مستحبًا.
ولا تخافي من كونه ابتلاءً ما دمتِ تؤتين حق الله فيه من شكرٍ وغيره، فإن الابتلاء فيما يفرح به ابن آدم من نعم الله عليه يكون باختباره: أيشكر نعمة الله عليه، أم يجحدها وينسبها إلى نفسه وقوته؟ وقد فرح سليمان عليه السلام لما رأى عرش ملكة سبأ مستقرًا عنده، وعلم أن ذلك ابتلاء له أيشكر أم يكفر, كما قال تعالى في قصته: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ {النمل:40}، فإن شكرتِ نعمة الله عليكِ كما ينبغي, وجعلتِ الأمر منه, والفضل بيده، لم يكن عليكِ بأس، بل كان لكِ بذلك الشكرِ الخيرُ العظيم في الدنيا والآخرة، إلا أن تُقصّري في أداء حق المال الذي آتاكِ من زكاة ونحوها.
ولذا فسر بذلك أهل العلم قول الله تعالى عن قارون: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ {القصص:76}، قال ابن كثير: يعنون: لا تبطر بما أنت فيه من الأموال, قال: وقال مجاهد: يعني الأشِرِينَ البَطِرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم.
وليس المراد ذم مطلق الفرح، كما فهمتِه.
ومن الشكر أداء حق المال، ولذلك قال الزجاج - فيما نقله عنه القرطبي في تفسيره -: المعنى لا تفرح بالمال، فإنّ الفَرِح بالمال لا يؤدّي حقَّه.
ولذلك لما نصح قارونَ قومُه بذلك: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي {القصص:78}، فكفر بنعمة الله ولم يشكرها، بل نسبها إلى نفسه أو جعلها مسبَّبًا عما علمه الله فيه، قال ابن سعدي: أي: إنما أدركتُ هذه الأموال بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب، وحذقي، أو على علم من اللّه بحالي، يعلم أني أهل لذلك، فلم تنصحوني على ما أعطاني اللّه تعالى؟! اهـ
وأما الخوف من أن يكون انتقامًا من شيء، فإنه من الشيطان، فإن الشيطان يخوف الإنسان وييئسه من رَوح الله ورحمته، فإن فعلتِ الواجب عليكِ من الله تجاه نعمه، فاعلمي أن ذلك خير لكِ، والواجب على من أدى حق الله عليه أن يحسن الظن بالله, وقد أراد الشيطان أن يخوف المؤمنين بالبلاء، فلما فعلوا الواجب عليهم عند حلول مثل ذلك البلاء، كان البلاء خيرًا لهم، ورد الله كيد الشيطان في نحره، قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {آل عمران: 173- 175}، والبلاء يكون بالخير والشر، بالسراء والضراء، كما في حديث مسلم المار، وكما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35}، وحاذري أن تنزلقي في مصيدة الشيطان فلا تحمدي الله على نعمه، وقد قال تعالى: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ {الحج:53}، بل افرحي بها وحدثي بها الناس شكراً لله، كما قال تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ {الضحى:11}، قال ابن سعدي: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} وهذا يشمل النعم الدينية والدنيوية { فَحَدِّثْ } أي: أثن على الله بها، وخصصها بالذكر إن كان هناك مصلحة, وإلا فحدث بنعم الله على الإطلاق، فإن التحدث بنعمة الله، داع لشكرها، وموجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن.
والله أعلم.