عنوان الفتوى : المسلم التقي : أفضل ممن دونه في التقوى ، سواء ولد أحدهما على الإسلام ، أو لا !!
هل صحيح بأن معتنقي الإسلام بشكل عام ، لهم ثواب وأجر أكبر عند الله سبحانه وتعالى من المسلمين الذين ولدوا على الإسلام أسوة بحادثة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه ، مع القائد الروماني جرجه ؟
الحمد لله
أولا :
لا تلازم بين فضيلة الإنسان في نفسه ودينه ، وبين أن يكون قد ولد على الإسلام من
أول الأمر ، أو أنه كان على غير دين الإسلام ، ثم أسلم ؛ وإنما الأصل المعوَّل عليه
هنا قول الله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات/
13 ؛ فمن كان أتقى لله ، وأطوع له ، وأعظم ائتماراً بأمره ، وانتهاءً عن نهيه : هو
أفضل وأعظم منزلة عند الله ممن كان دونه في ذلك ، وسواء في ذلك أن يكون الاثنان قد
ولدا على الإسلام ، أو لم يولدا عليه ، أو ولد أحدهما في الإسلام ، والآخر قد أسلم
بعد أن لم يكن مسلماً .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ
يَكْفُرْ قَطُّ ، أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ : لَيْسَ بِصَوَابِ ؛
بَلْ الِاعْتِبَارُ بِالْعَاقِبَةِ ، وَأَيُّهُمَا كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ فِي
عَاقِبَتِهِ : كَانَ أَفْضَلَ .
فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ
كُفْرِهِمْ : هُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَوْلَادِهِمْ
وَغَيْرِ أَوْلَادِهِمْ .
بَلْ مَنْ عَرَفَ الشَّرَّ وَذَاقَهُ ، ثُمَّ عَرَفَ الْخَيْرَ وَذَاقَهُ ، فَقَدْ
تَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِالْخَيْرِ وَمَحَبَّتُهُ لَهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِالشَّرِّ
وَبُغْضُهُ لَهُ : أَكْمَلَ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ
وَيَذُقْهُمَا كَمَا ذَاقَهُمَا ؛ بَلْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا الْخَيْرَ فَقَدْ
يَأْتِيهِ الشَّرُّ فَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ شَرٌّ ، فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِيهِ ،
وَإِمَّا أَنْ لَا يُنْكِرَهُ كَمَا أَنْكَرَهُ الَّذِي عَرَفَهُ .
وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّمَا تُنْقَضُ
عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ
يَعْرِفْ الْجَاهِلِيَّةَ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (10/300-302) .
مع أن عاقلاً لا ينكر فضل أن يكون الإنسان على دين غير دين الإسلام ، ثم يترك ما
كان عليه لله ، ويهجر أهله ووطنه ، وعاداته التي اعتادها ، ويدع ذلك كله لله ؛ فهذا
قد تحقق له من عبودية الهجرة إلى الله ، والفرار إليه ، ومجاهدة نفسه في الله ، ما
لم يتحقق لغيره ممن ولد على الإسلام .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" من اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يذنب ، أفضل من كل من آمن بعد كفره وتاب بعد ذنبه
: فهو مخالف ما علم بالاضطرار من دين الإسلام ، فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين
آمنوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد كفرهم ، وهداهم الله به بعد ضلالهم ،
وتابوا إلى الله بعد ذنوبهم : أفضل من أولادهم الذين ولدوا على الإسلام .
وهل يُشَبِّه بني الأنصار بالأنصار، أو بني المهاجرين بالمهاجرين إلا من لا علم له
؟
وأين المنتقل بنفسه من السيئات إلى الحسنات ، بنظره واستدلاله ، وصبره واجتهاده ،
ومفارقته عاداته ، ومعاداته لأوليائه ، وموالاته لأعدائه ، إلى آخر ، لم يحصل له
مثل هذه الحال؟". انتهى من "منهاج السنة النبوية" (2/ 399) .
ثانياً :
خبر إسلام جرجة الرومي على يدي خالد بن الوليد رضي الله عنه : لا يصح إسناده ، ولا
يحتج به .
فقد رواه الطبري في "تاريخه" (3/397) عن السَّرِيّ ، عَنْ شعيب ، عن سيف ، عن أبي
عثمان يزيد بْنِ أُسَيْدٍ الْغَسَّانِيِّ ، عَنْ عُبَادَةَ وَخَالِدٍ ، قَالا: ...
فذكر القصة مطولة ، وفيها :
" ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ جرجه : يا خالد، أخبرني إلام تَدْعُونِي ؟
قَالَ : إِلَى شِهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَالإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ،
قَالَ : فَمَنْ لَمْ يُجِبْكُمْ ؟
قَالَ : فَالْجِزْيَةُ وَنَمْنَعُهُمْ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا ؟
قَالَ : نُؤْذِنْهُ بِحَرْبٍ ، ثُمَّ نُقَاتِلُهُ .
قَالَ : فَمَا مَنْزِلَةُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيكُمْ وَيُجِيبُكُمْ إِلَى هَذَا
الأَمْرِ الْيَوْمَ؟
قَالَ : مَنْزِلَتُنَا وَاحِدَةٌ فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا ، شَرِيفُنَا
وَوَضِيعُنَا ، وَأَوَّلُنَا وَآخِرُنَا.
ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ جرجةُ : هَلْ لِمَنْ دَخَلَ فِيكُمُ الْيَوْمَ يَا خَالِدُ
مِثْلُ مَا لَكُمْ مِنَ الأَجْرِ وَالذَّخْرِ ؟
قَالَ: نَعَمْ ، وَأَفْضَلُ .
قَالَ : وَكَيْفَ يُسَاوِيكُمْ وَقَدْ سَبَقْتُمُوهُ ؟
قَالَ: إِنَّا دَخَلْنَا فِي هَذَا الأَمْرِ ، وَبَايَعْنَا نَبِيَّنَا صلى الله
عليه وسلم وَهُوَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، تَأْتِيهِ أَخْبَارُ السَّمَاءِ
ويخبرنا بِالْكُتُبِ ، وَيُرِينَا الآيَاتِ ، وَحَقٌّ لِمَنْ رَأَى مَا رَأَيْنَا ،
وَسَمِعَ مَا سَمِعْنَا ، أَنْ يُسْلِمَ وَيُبَايِعَ ، وَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ لَمْ
تَرَوْا مَا رَأَيْنَا ، وَلَمْ تَسْمَعُوا مَا سَمِعْنَا مِنَ الْعَجَائِبِ
وَالْحُجَجِ ، فَمَنْ دَخَلَ فِي هَذَا الأَمْرِ مِنْكُمْ بِحَقِيقَةٍ وَنِيَّةٍ
كَانَ أَفْضَلَ مِنَّا ..." إلى آخر القصة .
وهذا الخبر : إسناده واه جدا :
- أبو عثمان يزيد بن أسيد لم نجد له ترجمة .
- سيف بن عمر متروك متهم ، قال ابن حبان : " اتهم بالزندقة ، يروى الموضوعات عن
الأثبات " ، وقال الحاكم : " اتهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط " ، ينظر:
"المجروحين" (1/345) ، " تهذيب التهذيب " (4/260) .
- شعيب ، وهو ابن إبراهيم الكوفي ، قال الذهبي : " راوية كتب سيف عنه ، فيه جهالة "
.
انتهى من "ميزان الاعتدال" (2/ 275) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الإصابة" (1/ 633) في ترجمة جرجة :
" ذكر سيف بن عمر في الفتوح أنه أسلم على يدي خالد بن الوليد ، واستشهد باليرموك ،
وذكر قصّته أبو حذيفة إسحاق بن بشر في الفتوح أيضاً ، لكن لم يسمّه " انتهى .
وإسحاق بن بشر هذا تالف ، قال الذهبي : " تركوه ، وكذبه علي بن المديني ، وقال ابن
حبان: لا يحل حديثه إلا على جهة التعجب ، وقال الدارقطني : كذاب متروك .
قلت - أي الحافظ الذهبي - : يروى العظائم عن ابن إسحاق وابن جريج والثوري " .
انتهى من " ميزان الاعتدال " (1/184) .
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله :
" على أن حاجة التاريخ إلى معرفة أحوال ناقلي الوقائع التاريخية ، أشد من حاجة
الحديث إلى ذلك ؛ فإن الكذب والتساهل في التاريخ أكثر " انتهى من "علم الرجال
وأهميته" (ص 24) .
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (83121)
، (201514) .
والله تعالى أعلم .