عنوان الفتوى : السنة والبدعة، الدعاء الجماعي بعد الصلاة نموذجا
ما هو الفرق بين السنة والبدعة, وكيف نحكم على الشيء إنه بدعه مع توسع بعض الجماعات في مفهوم البدعة حتى قالوا عن أمور عادية إنها من البدع، مثل الدعاء بعد الصلاة وهكذا؟
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: –
موضوع السنة والبدعة من القضايا التي يكثر الحديث عنها بين الجماعات العاملة في الحقل الدعوي، ولا شك أن المدرسة السلفية من أشد المدارس حرصا على السنة بكل أشكالها، السنة شكلا وموضوعا، ولذلك كانوا أكثر المحذرين من البدعة، وقد وسعوا كثيرا في مفهوم البدعة فأدخلوا فيها أشياء تستحق المناقشة.
ومن المسائل المهمة في موضوع البدعة، هو ما يعرف بالبدعة التركية، وهو ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل يعد فعل هذا الأمر المتروك بدعة أم لا، وفي المسألة عدة أنظار متفاوتة، وفيها أبحاث موضوعة.
والدعاء بعد الصلاة واحدة من أفراد هذا النوع فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة يذكر الله بأذكار مختلفة، ولم يثبت عنه أنه كان يشتغل حينئذ بالدعاء ومع ذلك استحب بعض العلماء الدعاء بعد الصلاة خاصة بعد صلاتي الفجر والعصر، ليس لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصنع ذلك، ولكن لأن هاتين الصلاتين ليس لهما سنة بعدية، فالاشتغال بالدعاء أفضل من السكوت، وهو مشروع في كل وقت، ولم يقل أحد من العلماء : إن الدعاء بعد الصلاة حرام أو مكروه، ولكنهم قالوا فقط: هو خلاف السنة، والسنة الذكر فقط. وهذا كله في حالة الدعاء الجماعي، أما دعاء كل مصل على حدة فلا شئ فيه.
جاء في فتاوى الإمام ابن تيمية: الذي نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بعد الصلاة المكتوبة إنما هو الذكر المعروف ، كالأذكار التي في الصحاح وكتب السنن والمساند وغيرها، مثل ما في الصحيح : أنه كان قبل أن ينصرف من الصلاة يستغفر ثلاثا ثم يقول : { اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام }.
وفي الصحيح أنه كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة : { لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ،ولا ينفع ذا الجد منك الجد } .
وفي الصحيح أنه كان يهلل هؤلاء الكلمات في دبر المكتوبة : ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير “.” لا حول ولا قوة إلا بالله ،لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل ، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون } .
وفي الصحيح { أن رفع الصوت بالتكبير عقيب انصراف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم } وأنهم كانوا يعرفون انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك .
وفي الصحيح أنه قال : { من سبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد ثلاثا وثلاثين وكبر ثلاثا وثلاثين فتلك تسع وتسعون ، وقال تمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ؛ غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر }.
وفي الصحيح أيضا أنه يقول : { سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين } . وفي السنن أنواع أخر .
وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعا عقيب الصلاة فلم ينقل هذا أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن نقل عنه أنه أمر معاذا أن يقول دبر كل صلاة: { اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك } ونحو ذلك .
ولفظ دبر الصلاة قد يراد به آخر جزء من الصلاة . كما يراد بدبر الشيء مؤخره، وقد يراد به ما بعد انقضائها كما في قوله تعالى: {وأدبار السجود} وقد يراد به مجموع الأمرين، وبعض الأحاديث يفسر بعضا لمن تتبع ذلك وتدبره .
وبالجملة فهنا شيئان: أحدهما: دعاء المصلي المنفرد، كدعاء المصلي صلاة الاستخارة وغيرها من الصلوات، ودعاء المصلي وحده إماما كان أو مأموما.
والثاني: دعاء الإمام والمأمومين جميعا، فهذا الثاني لا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله في أعقاب المكتوبات كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه، إذ لو فعل ذلك لنقله عنه أصحابه ثم التابعون ثم العلماء كما نقلوا ما هو دون ذلك; ولهذا كان العلماء المتأخرون في هذا الدعاء على أقوال:
منهم من يستحب ذلك عقيب الفجر والعصر كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم ولم يكن معهم في ذلك سنة يحتجون بها، وإنما احتجوا بكون هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما.
ومنهم: من استحبه أدبار الصلوات كلها وقال: لا يجهر به إلا إذا قصد التعليم . كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم وليس معهم في ذلك سنة إلا مجرد كون الدعاء مشروعا وهو عقب الصلوات يكون أقرب إلى الإجابة، وهذا الذي ذكروه قد اعتبره الشارع في صلب الصلاة ، فالدعاء في آخرها قبل الخروج مشروع مسنون بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين، بل قد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الدعاء في آخرها واجب وأوجبوا الدعاء الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم آخر الصلاة بقوله : { إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع : من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال } رواه مسلم وغيره .
والمناسبة الاعتبارية فيه ظاهرة، فإن المصلي يناجي ربه فما دام في الصلاة لم ينصرف فإنه يناجي ربه، فالدعاء حينئذ مناسب لحاله، أما إذا انصرف إلى الناس من مناجاة الله لم يكن موطن مناجاة له ودعاء . وإنما هو موطن ذكر له وثناء عليه فالمناجاة والدعاء حين الإقبال والتوجه إليه في الصلاة . أما حال الانصراف من ذلك فالثناء والذكر أولى .
وكما أن من العلماء من استحب عقب الصلاة من الدعاء ما لم ترد به السنة : فمنهم طائفة تقابل هذه لا يستحبون القعود المشروع بعد الصلاة ولا يستعملون الذكر المأثور بل قد يكرهون ذلك وينهون عنه، فهؤلاء مفرطون بالنهي عن المشروع وأولئك مجاوزون الأمر بغير المشروع والدين، إنما هو الأمر بالمشروع دون غير المشروع .
وقال الإمام ابن تيمية في موضع آخر: الأحاديث المعروفة في الصحاح والسنن والمساند تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاته قبل الخروج منها، وكان يأمر أصحابه بذلك ويعلمهم ذلك ولم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعا، لا في الفجر ولا في العصر ولا في غيرهما من الصلوات، بل قد ثبت عنه أنه كان يستقبل أصحابه ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقيب الخروج من الصلاة.
والله أعلم .