عنوان الفتوى : لم يرد أن الصحابة كانوا يغسلون قلب النبي صلى الله عليه وسلم بماء زمزم وأنه كان يجوع ليشبع غيره
شاهدت أمي مؤخرا محاضرة لشيخ ، وادعى فيها أن صحابة النبي محمد صلي الله عليه وسلم كانوا يأخذون قلب النبي منه ، وينظفونه بماء زمزم حتى يظل طاهرا نقيا ، ويرجعونه ثانية له . أتساءل بحرص عن صحة هذا الادعاء ، ولك أن ترجح هذا أو ترفضه . هذا الادعاء يبدو بالنسبة لي ادعاءً غير منطقي ؛ لأن النقاء والطهارة تأتى من داخل الإنسان ، لذلك لماذا تعني الصلاة وتلاوة القرآن وعمل الحسنات طهارة الداخل ؛ لأنها تنقي الإنسان وتسلمه من الداخل . ادعاء آخر قاله الشيخ أيضا ، وهو : أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يجوع ويحرم نفسه من أجل هذه الأمة ، أعلم أنه في وقت الحرب والجهاد كان يربط النبي صلي الله عليه وسلم على بطنه حجرين - أو شيئا من هذا القبيل - حتى يذهب عنه ألم الجوع ، وكذلك كان يفعل باقي صحابته الكرام ، ولكن أن يدعي الشيخ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُجوع نفسَه لإنقاذ أو لتقديم النفع لهذه الأمة ، فهي فكرة خاطئة بجدارة ، حيث تشبه الادعاء النصراني الزائف أن المسيح عليه السلام قد مات تكفيرا عن خطايا النصارى ، وإنقاذا لهم ، لذلك أشك أيضا في هذا الادعاء أيضا . أرجو توضيح هذه الأمور .
الحمد لله
من دواعي سرورنا أن نقرأ في أسئلة المسلمين قدرا عاليا من الوعي والفهم ، بحيث لا
تمر بهم الأحاديث والحكايات دون أن يتثبتوا منها ويتوثقوا من أصلها ، يستعملون في
ذلك ما يمليه العقل من محاولة النقد والتأمل ، ثم بعد سؤال المختصين يتوصلون إلى
التصويب أو التخطئة .
وهنا نقول لك إنه لم يرد عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أنهم كانوا يغسلون قلب
النبي صلى الله عليه وسلم بماء زمزم ، وأنى لهم ذلك وهم بشر كأي بشر ، لا يملكون
التصرف في هذا الكون إلا بما تجيزه سنن الكون وقوانينه ، وقلب النبي صلى الله عليه
وسلم أطهر القلوب وأنقاها ، لا تبلغه أيدي البشر ، بل هو محفوظ بحفظ الله سبحانه .
ولكننا ننبه هنا إلى حادثة قريبة ، قد يكون اختلط على المتحدث الذي سمعتموه أمرها ،
أو قد يكون الاختلاط قد حصل من السامع نفسه ، لا من القائل ؛ وهي حادثة " شق الصدر
"، وقد وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم مرتين ، واحدة في صغره وطفولته ، والأخرى
ليلة الإسراء والمعراج ، ولم تقع بأيد بشرية وإنسية ، بل بأيدي الملائكة الكرام .
والحكمة منها – كما ورد في الحديث الصحيح – نزع العلقة ( القطعة السوداء ) التي هي
حظ الشيطان من الإنسان من قلبه في طفولته ، وملء القلب حكمة وإيمانا وطهرا ويقينا .
وهذا كله من عالم الغيب الذي لا ندرك حقيقته ، الله سبحانه وتعالى أكرم نبيه به
بأيدي الملائكة الكرام ، دون جرح ولا إيلام ، وهو عز وجل قادر على كل شيء ، وله
الحكمة البالغة سبحانه ، يعلمنا دائما أن الغيب لله ، ولكنه يرتبط بحياة الإنسان
ارتباطا وثيقا ، فحظ الشيطان في قلب الإنسان مركب فيه لا محالة ، والمسلم يجاهد
هواه في سبيل تخليص النفس من آثار نصيب الشيطان هذا ، ليلقى الله سبحانه وتعالى
قلبا تقيا نقيا سليما ، كما قال سبحانه : ( إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ ) الشعراء/89 ، وقال عز وجل : ( وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) ق/33 .
وإذا كان الإيمان يتحقق في القلب بالطاعة والمجاهدة ، فهو يتحقق أيضا بما يلقيه
الله من أنواره وجلاله سبحانه ، وإذا كان عز وجل ( يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ
رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ) الحج/75، فمن مقتضيات الاصطفاء اصطفاء القلب وتهيئته
لتلقي الوحي الذي وصفه الله عز وجل بقوله : ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا
ثَقِيلًا ) المزمل/5 .
ألا ترى أننا جميعا نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يفتح قلوبنا لنور الإيمان ،
وندعوه دائما عز وجل أن يطهر قلوبنا من كل سوء ، وأن يكرمنا بما أكرم به قلوب
أوليائه المؤمنين ، في قوله سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي
قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ
جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) الفتح/ 4،
وفي قوله جل وعلا : ( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً
وَرَحْمَةً ) الحديد/27 ، فلماذا إذن نستكثر أن يطهر الله قلب النبي صلى الله عليه
وسلم بأيدي ملائكته ، في حادثة جسدية مادية تُعلم الناس أن ديننا يرتبط فيه عالم
الغيب بعالم الشهادة ، وتنتظم فيه قواعد السنن الكونية والحكم الإلهية .
عَنْ أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : ( فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ ، فَنَزَلَ
جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَفَرَجَ صَدْرِي ، ثُمَّ غَسَلَهُ
بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً
وَإِيمَانًا ، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي
، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ) رواه البخاري (349) ، ومسلم (163) .
وهذا لا يتعارض مع قولنا بأن التزكية تبدأ من الداخل ، وتنطلق من الذات والإرادة
الحرة التي خلقها الله سبحانه وتعالى في الإنسان ، ولكن ذلك لا يعني أن البداية
والنهاية لها ، بل وعد الله عز وجل عباده المتقين الذين طهروا قلوبهم ونفوسهم ، أن
يزيدهم طهرا ونقاء وتصفية من عنده ، وأن يجعل ذلك كرامة لهم وإحسانا جزاء ما وقع في
قلوبهم من حب الخير والإيمان ، كما قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا
زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) محمد/17 ، وقال سبحانه : ( وَيَزِيدُ
اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ
رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) مريم/76 ، وقال جل وعلا : ( وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) التغابن/11.
ويمكنكم مراجعة حادثة شق الصدر والأحاديث المرفوعة الواردة فيها في الفتوى رقم :
(89869) .
أما الشق الثاني من السؤال ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ( يجوع ليشبع
غيره ، ويعطش ليروى سواه ) فذلك مما لم ترد به السنة المطهرة ، ولا كتب السيرة
المشرفة ، ولا نعرفه مذكورا في كتب العلماء ، وإن كان مقبولا من حيث الفكرة ،
فالكرم والإيثار من الأخلاق الفاضلة الحميدة ، التي يتحلى بها كثير من البشر ، فمن
باب أولى أن يتصف بها الرسل والأنبياء ، وأولهم خير البشر نبينا محمد صلى الله عليه
وسلم ، قال تعالى : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الحشر/9.
وليس هناك إشكال في وقوع مثل ذلك في أي موقف اضطرار ، بحيث يقل الطعام عن حاجة القوم ولا يبقى إلا أن يؤثر الناس بعضهم بعضا ، فسيكون النبي عليه الصلاة والسلام أول من يؤثر غيره ولا شك ، لكن مثل هذا سوف يكون واقعة معينة ، تتعلق بمن حضرها ، لا بمن غاب عنها من البشر في زمانها ، فضلا عمن يأتي بعد أزمانهم من الناس ؛ ومثل ذلك كله لا علاقة له من قريب أو من بعيد ، بعقيدة الفداء التي افتراها النصارى على الله .
على أننا لم نقف على شيء من ذلك الاحتمال الممكن ، مرويا في سيرة النبي صلى الله
عليه وسلم ، وإنما ورد في معجزاته ، صلى الله عليه وسلم : أن يكثر الطعام بين يديه
، حتى يشبع القوم من عند آخرهم . كما ثبت عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال :
( لَمَّا حُفِرَ الخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَمَصًا شَدِيدًا ، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي ، فَقُلْتُ : هَلْ عِنْدَكِ
شَيْءٌ ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَمَصًا شَدِيدًا ، فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ ،
وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا ، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ ، فَفَرَغَتْ
إِلَى فَرَاغِي ، وَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا ، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : لاَ تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَنْ مَعَهُ ، فَجِئْتُهُ
فَسَارَرْتُهُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا
وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا ، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ
مَعَكَ ، فَصَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا أَهْلَ
الخَنْدَقِ ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا ، فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لاَ تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ ،
وَلاَ تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ . فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْدُمُ النَّاسَ ، حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي ،
فَقَالَتْ : بِكَ وَبِكَ . فَقُلْتُ : قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ . فَأَخْرَجَتْ
لَهُ عَجِينًا فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ
وَبَارَكَ ، ثُمَّ قَالَ : ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي ، وَاقْدَحِي مِنْ
بُرْمَتِكُمْ وَلاَ تُنْزِلُوهَا . وَهُمْ أَلْفٌ ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ
أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا ، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا
هِيَ ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُو ) رواه البخاري (4102) ، ومسلم
(2039) .
فلا يجوز أن يدفعنا كفرنا بعقيدة ( الفداء ) التي يؤمن بها النصارى إلى الجور في
الأحكام والتصورات ، وإفساد طريقة التفكير السليم ، فنحن لم ننكر في عقيدة ( الفداء
) خلق الإيثار الذي هو قيمة فاضلة في نفسه ، وإنما المنكر هو أن يكون الرب الذي هو
المسيح عليه السلام – في زعمهم - مضطرا إلى ( الموت ) كي يكفر خطايا بني آدم .
فالباطل في هذه العقيدة أمور محددة :
1. أن المسيح عليه السلام بشر نبي مرسل ، وليس إلها ولا ابنا لله سبحانه وتعالى.
2. أن عقيدة الفداء تقوم على فكرة ميراث الذنوب والخطايا ، وأن ما أذنبه آدم عليه
السلام حين أكل من الشجرة تتحمله ذريته من بعده ، وهذا ما يعارض المبدأ الإلهي
العادل : ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا
يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) الإسراء/15، أما الإيثار في الطعام
والشراب والسعادة فلا ينطوي على تحميل أحد ذنوب الآخرين ، وما اقترفت أيديهم ، بل
هي تضحية وتفضل من المؤثر ، لا يلزمه به أحد ، ولا مدخل له في مسألة الذنب والمغفرة
؛ فإن أحدا لا يحمل عن أحد شيئا من ذنبه ، ولو كانت الوالدة ، ووليدها .
3. أنه ليس ثمة تفسير عقلي مقبول لاضطرار الرب أن يضحي بنفسه أو بولده – على اختلاف
بين طوائف النصارى – كي يكفر خطايا بني آدم ، رغم أنه سبحانه وتعالى ( الرحمن
الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء ) ؛ فليكفر عنهم ـ إذا ـ وليغفر لهم ، من غير تلك
الكلفة الباهظة !!
4. الحقيقة القرآنية الناصعة أن عيسى عليه السلام لم يصلب ، كما قال تعالى : (
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) النساء/157.
5. أنه لا دليل أصلا على عقيدة ( الفداء ) فالمسيح عليه السلام لم يتكلم بما يدل
عليها ، فكل من تكلم بها إنما أحدثها بعد رفعه عليه السلام إلى السماء الدنيا ،
فكلامه إنما هو رأي وتفسير من عنده لا يجوز أن يلزم الناس به ، وأن يجعله المعتقد
الذي تحمل عليه البشرية جميعها .
هذا باختصار ، كي نوضح الفرق بين عقيدة ( الفداء ) الباطلة ، والإيثار المستحب ،
وإلا فالتوسع في تلك العقيدة سبق في موقعنا في الفتوى رقم : (42573).
والخلاصة : أنه لم يصح عن الصحابة تغسيل قلب النبي صلى الله عليه وسلم بماء زمزم ،
وإنما وردت حادثة شق الصدر من فعل الملائكة الكرام . كما لم يثبت في الآثار أنه
عليه الصلاة والسلام كان ( يجوع ليشبع غيره ) ، وإنما صح في السنة والسيرة النبوية
أنه عليه الصلاة والسلام كان يجوع ، وتمر عليه الأشهر ، ولا قوت في بيته سوى التمر
والماء . ينظر الأجوبة في الأرقام : (154864) ، (187715) .
والله أعلم .