عنوان الفتوى: أصابه الشك في الإسلام بسبب اطلاعه على بعض الأحاديث التي ظاهرها متعارض
أنا مسلم جزائري والحمد لله ، ولكن منذ مدة من الزمن بدأت أقرأ بعض الأمور حول الإسلام التي لم أكن أسمع بها من قبل ، وللأسف أصبحت تراودني الكثير من الشكوك والوساوس ، فبدأت أبحث عن أجوبة للكثير من التساؤلات التي التقيت بها ، والتي أصبحت أبحث عنها بنفسي في مختلف مواقع الإنترنت المعادية للإسلام ، وذلك لأنني أعتقد أنه لا بد من أن كل هاته الشبهات المثارة حول الإسلام ما هي إلا افتراءات ، وأن لكل منها رد وجواب ،حيث إني أرى أن علماء الإسلام دائما ما يبينون التناقضات والافتراءات الموجودة في الديانات الأخرى الباطلة كالنصرانية واليهودية وغيرهما ، بهدف تبيين أنه ليس هناك دين صحيح غير الإسلام . فكيف يكون فيه تناقضات هو الآخر ، ولديه أعداء يجمعون الشبهات حوله بالآلاف ، بنفس الطريقة التي يقوم بها المسلمون حول الديانات الأخرى الباطلة ، فأصبحت تراودني وساوس وشكوك في كل لحظة بأن كل الديانات الموجودة على الأرض مليئة بالتناقضات ، وإحدى التناقضات المذكورة في عنوان الرسالة هي كالتالي : جاء في " صحيح البخاري " في كتاب " المغازي "، باب حج أبي بكر بالناس في سنة تسع : حدثني عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء رضي الله عنه قال : آخر سورة نزلت كـــامــــلــــة براءة ، وآخر سورة نزلت خاتمة سورة النساء ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) . وجاء في صحيح مسلم عن البراءِ ( أنَّ آخرَ سورةٍ أُنزلت تـــــــامــــةً سورةُ التوبةِ . وأنَّ آخرَ آيةٍ أُنزلت آيةُ الكلالةِ . وفي روايةٍ : بمثلِه . غيرَ أنَّهُ قال : آخرُ سورةٍ أُنزلت كـــــــامــــلــــةً ) أولا نفهم من الحديثين - الموجودين في أصح كتب المسلمين بعد القرآن الكريم - أن سورة التوبة - وهي سورة براءة - أنزلت تــــامـــة وكـــامــــلـــة ، وأنزلت في أواخـــــر زمن الوحي . ثم نذهب إلى قول الله عز وجل ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) وهي الآية رقم113 من سورة التوبة التي ثبت في الصحيحين كما سبق أن رأينا أنها مدنية ، أنزلت في أواخر زمن الوحي ، وأنها نزلت كـــــــــــــــــامـــــــــــــلــــــــــة . بعد ذلك نجد في الصحيحين أيضا خبرا آخرا يبين بوضوح أن هناك آية من سورة براءة نزلت عند موت أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، أي قبل الهجرة بثلاث سنوات : " صحيح البخاري "، كتاب " تفسير القرآن " ، سورة براءة ، باب قوله : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) حدثنا : إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا : عبد الرزاق ، أخبرنا : معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه قال : ( لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أي عم ! قل : لا إله إلا الله ، أحاج لك بها عند الله ) ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ! أترغب عن ملة عبد المطلب ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) ، فنزلت : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) . فهذا الحديث الصحيح يبين بصراحة تامة أن الآية/113 من سورة التوبة نزلت قبل الهجرة ، حيث إننا نعلم من الصحيح أن أبا طالب مات في نفس العام الذي توفيت فيه زوجة النبي صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، ولا داعي لذكر الروايات التي تؤكد ذلك . وأيضا هناك أحاديث صحيحة أخرى تبين أن آيات عديدة من سورة التوبة نزلت في أزمنة متباعدة عن بعضها البعض ، فبعض الآيات نزلت في غزوة تبوك... وآية نزلت عند موت المنافق عبد الله بن أبي ، وهي الآية/84 ، وآية أخرى نزلت يوم الجمعة عندما كان هناك ثلاثة رجال يتحاورون عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم في أمور اختلفوا فيها ، وهي الآية/19 . وغيرها من الروايات التي توحي بأن آيات سورة التوبة لم تنزل مع بعضها البعض وعلى الرغم من ذلك نجد في الصحيحين اللفظتين " تامة " و " كاملة " مما يبين بوضوح في لغة العرب أن السورة نزلت كاملة في أواخر الوحي . هذا هو الإشكال الذي لم أجد له جوابا شافيا للأسف لحد الآن ، وللأسف الشديد هناك غيره من التناقضات والإشكالات الموجودة بكثرة ، والتي لا يسعني ذكرها كلها . فأرجو من الله أن يوفقكم أن تساعدوني في محنتي فإن هاته الشكوك كادت أن تقتلني وترمي بي في ظلمات لا نور فيها .
الحمد لله
بداية لا بد من تقدير صراحتك في السؤال ، وإفضائك بما في نفسك من أمر تجده محل شبهة
وشك ، وهكذا ينبغي على العاقل الحر ، البحث الدائم عن ما يشفي نفسه وقلبه من العلم
والمعرفة ، ليحقق الطمأنينة التي يسعى إليها .
ونحن هنا نجيبك بجواب واحد ، وفكرة مباشرة ، من غير إطالة ولا تفصيل ، ونجزم يقينا
أن هذه الفكرة تغيب عنك . ونضرب لك مثالا يوضح الأمر فنقول :
أرأيت الأزمة السورية المؤخرة – التي نسأل الله تعالى أن يعجل بالفرج فيها لصالح
المسلمين المظلومين – هي أزمة حقيقية ، وكارثة كاملة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ،
يشهد بذلك عشرات الآلاف من الشهداء والجرح والأسرى والمعتقلين ، وملايين المشردين
اللاجئين ، والأخبار الواردة من هناك ، والمنقولة عبر جميع وسائل الاتصال المعاصرة
، والصور المشاهدة ، أصبحت معها الأزمة عين يقين بالنسبة للعالم كله ، ليس ثمة أدنى
شك في وجودها على الأرض السورية .
ولكن الأخبار التي ترد من هناك يعتريها في كثير من الأحيان قدر من الاختلاف
والاضطراب ، فترى مثلا مراسلا يخبر عن عدد شهداء يوم معين من أيام المعارك فيقول
إنه بلغ الخمسين ، ومراسل آخر يزيد إلى السبعين ، وثالث ينقص إلى الثلاثين ، أيضا
ترى وسيلة إعلامية تخبر أن النصر في معركة معينة كان حليف الثوار ، ووسيلة أخرى
تخبر عن نصر لكتائب النظام ، وثالث يحاول التوازن فيعبر بأن المعركة ما زالت طور
الكر والفر ، وهكذا مرت الأزمة بعاصفة من الأخبار غير الدقيقة ، والروايات التي
يختلط فيها الحق والباطل . وهذا لا شك فيه أيضا .
ولكن ، هل اختلاف الأخبار عن الأزمة السورية يعني أن نشك في وقوع الأزمة أصلا ،
فيدخل في قلوبنا الشك والشبهة في هذا الأمر ، وتنبعث في قلوبنا الخواطر بأنه لا
يوجد في سورية محنة أصلا ، ولا حرب ، ولا عناء !!
ألا ترى معنا أن من يدعي الشك في كل ما يحدث هناك ، فيقول : إنه لم يقتل أحد ، ولم
يعتقل أحد ، وإن تلك البلاد تعيش في حياة رغد وسعادة ، وكل ما ينقل في وسائل
الإعلام كذب وتزوير !
فهل من الممكن أن يقبل منطق العقل ، مثل ذلك التفكير ؟!
هل يقبل المنطق السليم ، أن يجعل من أخطاء الناقلين ، ذريعة لإنكار الحدث أصلا ؛
وهو من العظم والخطر بمكان لا يخفى على ذي عينين ؟!
إن واجب العاقل التفتيش في سبل حل الاضطراب في الأخبار ، والتمييز بين من أخطأ مِن
الرواة ، ومَن أصاب .
وهذا مَثَل جميع الشبهات التي تتحدث عنها في سؤالك ، سواء صرحت بها هنا ، أم تركتها
اختصارا ، كلها ترجع إلى المثال الذي ذكرناه .
لنفرض أن الروايات الواردة في الصحيحين أو في غيرهما ، وقع بينها كثير من الاختلاف
والاضطراب ؛ فلماذا تجعل ذلك سبيلا للتشكك في أصل الدين ، وأدلة اليقين ، بل يتطور
الأمر عند بعضهم إلى الشك في الله سبحانه وتعالى ، وفي إرساله الرسل ، وإنزاله
الكتب ، وما أتي إلا بسبب زلة عقلية يسيرة ، ولكنها تؤثر تأثيرا بالغا في انحراف
التفكير ، وملء القلب بالسواد والظلام .
الأمر يسير جدا ، روايات وأخبار كثيرة وقع بينها الاختلاف ، وامتلأت بها كتب الآثار
والتاريخ ، فكان ماذا ؟!! هل تريد حدثا أعظم في التاريخ من حدث ( الإسلام ) بجميع
تفاصيله وقضاياه العقائدية والتشريعية والتاريخية ، وما أدى إليه مبعث النبي محمد
صلى الله عليه وسلم من تغيير وجه البشرية ، وانتشار الإسلام ليصبح ثاني أكبر ديانة
انتشارا ، ودولة الإسلام بسطت نفوذها لقرون متطاولة على معظم دول الأرض الحية في
التاريخ ، كل هذا الحدث العظيم بجميع جزئياته يحتاج إلى عملية نقل حضاري وتاريخي
هائلة ، تنقل أدنى خبر ينقل لنا كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء ،
وأعظم خبر ينقل لنا كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلقى عن رب العزة جل وعلا
الوحي ، كل هذا تريد أن تلغيه لاختلاف وقع بين الرواة في بعض القضايا !
أليس من المنطقي أن تتعرض عملية النقل الحضاري الهائلة هذه لقدر من الاضطراب
والاختلاف بالنقص والزيادة !! ولو قرأت تاريخ الحضارات كلها كالفرعونية والبابلية
والرومانية وغيرها ، لعلمت كم هو الاختلاف الوارد في تفاصيل ذلك التاريخ ، ولكن
أحدا على الإطلاق لم يقل إنني أشك في وجود أصل تلك الحضارات ، وما عرفت عنه من عظم
ونفوذ . فلماذا نشك في أصل الدين ؟!! ولماذا تقبل عقولنا هذه المزالق في التفكير
بسرعة وعجلة ، وكأننا لا نملك شيئا من أسباب التدقيق والتحرير !!
هب أن تلك الروايات الواردة في سؤالك كلها خطأ ، أو مشكوك في صحتها ، وحقها أن تذهب
إلى كتب الأباطيل والأكاذيب ، فأي شيء في ذلك يدعو إلى التشكك في أصل الدين وفصله
؟! وهل قامت صحة الدين على مثل هذه الروايات ، حتى يدل سقوطها على هدم الدين ؟!
ونقول لك هنا أيضا – لنحقق لقلبك الطمأنينة الأكبر – هل التناقض وقع فيه النبي صلى
الله عليه وسلم هنا ، أم وقع بين الصحابة الذين نقلوا هذه الروايات ؟!
أعد قراءة الروايات في السؤال فستجد أنه لا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فيها .
فلو قلنا لك – بكل يسر وسهولة – إن البراء بن عازب رضي الله عنه الذي قال : ( إن
سورة التوبة نزلت كاملة ) أخطأ في قوله ذلك ، واجتهد فوهم في اجتهاده ، وأن الصواب
مع الصحابة الآخرين الذين نقلوا تفرق نزول كثير من آيات سورة التوبة في كثير من
المواضع ؛ فأي مشكلة بقيت أمامنا بعد ذلك ؟ وأي أصل من أصول الدين قد هدمنا بهذا
الجواب ؟ وماذا بقي من المشكلة بعد ذلك ؟
هذا مع أنه قد قال بعض العلماء إن كلمة ( كاملة )، أو ( تامة ) تطلق في اللغة
العربية ويراد بها المعظم والأكثر . كما يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله : "
المراد بعضها أو معظمها ، وإلا ففيها آيات كثيرة نزلت قبل سنة الوفاة النبوية ،
وأوضح من ذلك أن أول براءة نزل عقب فتح مكة ، في سنة تسع عام حج أبي بكر . وقد نزل
( اليوم أكملت لكم دينكم ) وهي في المائدة في حجة الوداع سنة عشر . فالظاهر أن
المراد معظمها ، ولا شك أن غالبها نزل في غزوة تبوك ، وهي آخر غزوات النبي صلى الله
عليه وسلم " انتهى من " فتح الباري " (8/316) .
والخلاصة :
أننا نخلص لك النصيحة هنا لوجه الله تعالى ، أن تعتني بمعالي العلوم ومقاصدها
الكلية ، وتؤجل القراءات التفصيلية في الأمور التاريخية التي لا تبني ولا تهدم ،
حتى تحقق العلم النافع وتطلع على كتب الإسلام وأركانه العظام ، وتوسع مداركك
بالتثقف في العلوم الأخرى والكتب المفيدة في اللغة والتاريخ والحضارة والفكر
والسياسة ، لترى المنهجية العلمية التي يفكر من خلالها المختصون ، وتبتعد عن لغة
التشكيك والاضطراب التي تبنيها ثقافة الإنترنت العامة. ولتعلم أن المستوى العلمي
والثقافي للفرد لا يحدد من خلال اطلاعه على صفحات المنتديات ومواقع الشبهات ، ولكن
من خلال قراءته للعلماء والمفكرين والمثقفين المشهورين ، وقبل ذلك كله بأعماله
وأخلاقه ورسالته في مجتمعه ، لتكون رسالة بناء ودعوة وفضيلة ، وليست رسالة شكوك
ووساوس يظنها شبهات في نفسه ، لجهله وقصور اطلاعه .
نسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق .
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |