عنوان الفتوى: حديث في فضل الرباط بعسقلان
قرأت منذ زمن وجيز حديثا عن فضل عسقلان والرباط فيها ، والحديث هو " أول هذا الأمر نبوة ورحمة ثم يكون خلافة ورحمة ثم ملكا ورحمة ثم إمارة ورحمة ثم يتكادمون عليها تكادم الحمير فعليكم بالجهاد وإن أفضل جهادكم الرباط وإن أفضل رباطكم عسقلان " . وأسئلتي هي : 1. ماهي درجة هذا الحديث ؟ 2. هل المقصود من هذا الحديث غزة ؟ لأني قرأت أن المدينتين تاريخيا واحدة ، ودليل ذلك أن الإمام الشافعي رحمه الله أجاب حين سأل عن مسقط رأسه : تارة بغزة ، وتارة أخرى بعسقلان .
الحمد لله
أولا :
غزة وعسقلان بلدتان كنعانيتان ، دلت الحفريات المكتشفة على أنهما كانتا مأهولتين
منذ العصر الحجري الحديث .
ويرجع أول ذكر عسقلان في التاريخ إلى نص فرعوني يعود إلى القرن التاسع عشر قبل
الميلاد .
أما غزة : فهي مدينة عريقة أيضا ، وقد تغير اسمها بتغير الأمم التي توالت عليها ،
فأطلق عليها الكنعانيون " هزاتي " والمصريون الفراعنة " غازاتو " و "غاداتو "
والعبرانيون " عزة " والآشوريون " عزاتي " . أما العرب فقد أطلقوا عليها " حمراء
اليمن " و " غزة " أو " غزة هاشم " .
وتقع مدينتا غزة وعسقلان جنوب فلسطين ، وتقع غزة جنوب غرب عسقلان ، وكانت غزة منذ
الفتح الإسلامي حتى الغزو الصليبي تابعة لعسقلان ، وعرفت بــــ " غزة عسقلان " وبين
عسقلان وغزة أربعة فراسخ ( حوالي 21 كم ) ، وبين غزة ويافا 80 كم ، وبين يافا
وعسقلان 56 كم ، ويفصل غزة وعسقلان عن بيت المقدس بلدة " بيت جبرين " وهي تبعد عن
غزة أقل من مرحلتين ، وبين بيت جبرين وعسقلان 32 كم .
انظر : "الحياة العلمية في غزة وعسقلان منذ بداية العصر العباسي حتى الغزو الصليبي"
(ص2-5) د/ زهير عبد الله سعيد أبو رحمة .
فيتبين مما تقدم إلى أن غزة
قريبة جدا من عسقلان ، وقد كانت غزة تابعة لها منذ الفتح الإسلامي حتى الغزو
الصليبي ، ولذلك ذكر العلماء أن الإمام الشافعي رحمه الله ولد بغزة ، وقيل بعسقلان
، قال النووي رحمه الله في "المجموع" (1/ 8):
" الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وُلِدَ
بِغَزَّةَ ، وَقِيلَ بِعَسْقَلَانَ ، وَهُمَا مِنْ الْأَرَاضِي الْمُقَدَّسَةِ
الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا ، فَإِنَّهُمَا عَلَى نَحْوِ مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ " انتهى .
راجع جواب السؤال رقم : (153652)
.
ثانيا :
قال الطبراني - رحمه الله - في "المعجم الكبير" (11138) :
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ النَّضْرِ الْعَسْكَرِيُّ ، ثنا سَعِيدُ بْنُ حَفْصٍ
النُّفَيْلِيُّ ، ثنا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ فِطْرِ
بْنِ خَلِيفَةَ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَوَّلُ هَذَا الْأَمْرِ نُبُوَّةٌ
وَرَحْمَةٌ ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً ، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا
وَرَحْمَةً ، ثُمَّ يَكُونُ إِمَارَةً وَرَحْمَةً ، ثُمَّ يَتَكادَمُونَ عَلَيْهِ
تَكادُمَ الْحُمُرِ فَعَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ ، وَإِنَّ أَفْضَلَ جهادِكُمُ
الرِّبَاطُ ، وَإِنَّ أَفْضَلَ رباطِكُمْ عَسْقَلَانُ )
وقوله " عن ابن شهاب " تصحيف ، والصواب " عن أبي شهاب " كما أورده السيوطي رحمه
الله في "اللآلئ المصنوعة" (1/422) وهو أبو شهاب موسى بن نافع الحناط ، وهو صدوق ،
وثقه ابن معين وغيره ، وقال أبو حاتم : يكتب حديثه
"التهذيب" (10/375) .
والذي يدل عليه أن موسى بن أعين لم يذكروا في شيوخه ابن شهاب ، فكأنه لم يلقه ، فإن
بين وفاتيهما 53 سنة .
والحديث ، قال الهيثمي رحمه الله في "المجمع" (5/190) :
" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ " .
وقال الألباني رحمه الله :
" وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات ؛ غير سعيد بن حفص النفيلي ، ففيه كلام يسير ،
وقد وثقه ابن حبان (8/268) ، وأخرج له في "صحيحه "ثلاثة أحاديث، والذهبي ،
والعسقلاني فقال : "صدوق تغير في آخر عمره " .
انتهى من " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (7/ 803) .
وسعيد بن حفص النفيلي ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال علي بن عثمان النفيلي : مات
يوم الجمعة في رمضان سنة سبع وثلاثين ومائتين ، وقال مسلمة بن قاسم : ثقة ، وقال
أبو عروبة الحراني : كان قد كبر ولزم البيت وتغير في آخر عمره .
"تهذيب التهذيب" (4/ 17)
وقال العيني في "مغاني الأخيار" (3/ 558):
" صدوق، تغير في آخر عمره " .
وقال الذهبي في "الكاشف" (1/433) : " ثقة " .
وأحمد بن النضر ثقة ، توفي سنة 290 كما في " تاريخ بغداد " (6/413) وتوفي النفيلي
سنة 237 كما تقدم ، فيكون بين وفاتيهما 53 سنة ، فيخشى أن يكون ابن النضر سمع هذا
الحديث من سعيد بن حفص بعد كبره واختلاطه .
ولذلك قال الشيخ عبد الرحمن اليماني رحمه الله في تعليقه على هذا الحديث :
" سعيد بن حفص النفيلي، تغير في آخر عمره "
انظر : هامش "الفوائد المجموعة" (ص 431) .
وقد روى الإمام أحمد (18406) عن حُذَيْفَة : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ
، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى
مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ ، ثُمَّ
يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا،
فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ
يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ
تَكُونَ ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ
خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ ) ثُمَّ سَكَتَ ".
وحسنه الألباني في "الصحيحة" (5) .
وروى الإمام أحمد (20445) عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ ، ثُمَّ يُؤْتِي اللهُ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ ) وهو حديث حسن
.
فلعل ذكر عسقلان في حديث
الترجمة غير محفوظ .
وقد ورد في فضل عسقلان عدة أحاديث كلها لا تصح .
راجع "الفوائد المجموعة" (ص429-432) بتعليق الشيخ اليماني .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله :
" عَامَّةُ مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ فَضْلِ عَسْقَلَانَ
والإسكندرية أَوْ عَكَّةَ أَوْ قَزْوِينَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَمَا يُوجَدُ مِنْ
أَخْبَارِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ بِهَذِهِ الْأَمْكِنَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَهُوَ
لِأَجْلِ كَوْنِهَا كَانَتْ ثُغُورًا ؛ لَا لِأَجْلِ خَاصِّيَّةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ
، وَكَوْنُ الْبُقْعَةِ ثَغْرًا لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرَ ثَغْرٍ : هُوَ مِنْ
الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ لَهَا ، لَا اللَّازِمَةِ لَهَا ؛ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهَا
دَارَ إسْلَامٍ أَوْ دَارَ كُفْرٍ ، أَوْ دَارَ حَرْبٍ أَوْ دَارَ سِلْمٍ ، أَوْ
دَارَ عِلْمٍ وَإِيمَانٍ أَوْ دَارَ جَهْلٍ وَنِفَاقٍ ؛ فَذَلِكَ يَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ سُكَّانِهَا وَصِفَاتِهِمْ " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (27/ 53) .
وقال أيضا :
" وَأَمَّا " عَسْقَلَانُ " : فَإِنَّهَا كَانَتْ ثَغْرًا مِنْ ثُغُورِ
الْمُسْلِمِينَ ، كَانَ صَالِحُو الْمُسْلِمِينَ يُقِيمُونَ بِهَا لِأَجْلِ
الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهَكَذَا سَائِرُ الْبِقَاعِ الَّتِي مِثْلُ هَذَا
الْجِنْسِ ، مِثْلُ " جَبَلِ لُبْنَانَ " و" الإسكندرية " وَمِثْلُ " عبادان "
وَنَحْوِهَا بِأَرْضِ الْعِرَاقِ ، وَمِثْلُ " قَزْوِينَ " وَنَحْوِهَا مِنْ
الْبِلَادِ الَّتِي كَانَتْ ثُغُورًا ؛ فَهَذِهِ كَانَ الصَّالِحُونَ
يَقْصِدُونَهَا؛ لِأَجْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " انتهى من "مجموع
الفتاوى" (27/ 141) .
وبتقدير صحة الحديث ؛ فإنه
يدل على فضل الرباط بعسقلان مطلقا ، وكذا غزة ؛ لأنها كانت تابعة لها كما تقدم ،
وكأن في ذلك إشارة إلى أنها تبقى ثغرا ، زمانا طويلا .
والله تعالى أعلم .