عنوان الفتوى : أضواء على دار البرزخ
عند أخذ الملائكة للروح المؤمنة تصادفها الأرواح الأخرى سائلة لها عن أهلها في الدنيا, فترد الملائكة أن اتركوه فإنه كان في همِّ الدنيا, ولم يقولوا في همِّ الموت وسكراته, فهل حياة البرزخ للمؤمن أفضل له من حياة الدنيا - ولو كان في الدنيا يعيش في قصور -؟ وهل حقًّا أن الدنيا بالنسبة للبرزخ همٌّ وغمٌّ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن نعيم المؤمن في دار البرزخ أكمل منه في دار الدنيا، قال الشيخ ابن عثيمين: حياة البرزخ حياةٌ بين حياتين, وهذه الأنواع الثلاثة للحياة تكون من أدنى إلى أعلى, فحياة البرزخ أكمل من الحياة الدنيا بالنسبة للمتقين؛ لأن الإنسان ينعم في قبره, ويفتح له بابٌ إلى الجنة, ويوسع له مد البصر. وحياة الآخرة وهي الجنة التي هي مأوى المتقين أكمل وأكمل بكثيرٍ من حياة البرزخ, وكذلك يقال: بالنسبة للكافر يقال: إن حياته في قبره أشد عذابًا مما يحصل له من عذاب الدنيا ،وعذابه في النار التي هي مأوى الكافرين أشد وأشد, فحياة البرزخ في الواقع حياةٌ بين حياتين في الزمن وفي الحال, فحال الإنسان فيها بين حالين دنيا وعليا, وكذلك الزمن كما هو معروف, أما سؤاله: هل تكون الحياة البرزخية بالروح والبدن, فهي قطعًا بالروح بلا شك, ثم قد تتصل بالبدن أحيانًا إن بقي ولم تأكله الأرض, ولم يحترق ويتطاير في الهواء, وقد لا تتصل, هذا هو القول الراجح في نعيم القبر أو عذابه أنه في الأصل على الروح, وقد تتصل بالبدن؛ لكن ما يكون عند الدفن فالظاهر أنه يكون على الروح والبدن جميعًا؛ لأنه جاء في الأحاديث ما يدل على ذلك من أن الميت يجلس في قبره, ويسأل ويوسع له في قبره, ويضيق عليه حتى تختلف أضلاعه, وكل هذا يدل على أن النعيم أو العذاب عند الدفن يكون على البدن والروح. اهـ.
وقال ابن القيم: وإذا كانت حياة أهل الإيمان والعمل الصالح في هذه الدار حياة طيبة، فما الظن بحياتهم في البرزخ، وقد تخلصوا من سجن الدنيا وضيقها؟ فما الظن بحياتهم في دار النعيم المقيم الذي لا يزول، وهم يرون وجه ربهم تبارك وتعالى بكرة وعشيا ويسمعون خطابه؟ اهـ.
أما كون الدنيا كالهمِّ والغمِّ بالنسبة لنعيمه في البرزخ فهذا صحيح, فقد أخرج الشيخان عن أبي قتادة، أنه كان يحدث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ عليه بجنازة، فقال: مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد، والبلاد، والشجر، والدواب.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. أخرجه مسلم.
قال النووي: معناه أن كل مؤمن مسجون, ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة, مكلف بفعل الطاعات الشاقة, فإذا مات استراح من هذا, وانقلب إلى ما أعد الله تعالى له من النعيم الدائم والراحة الخالصة من النقصان, وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قلته وتكديره بالمنغصات, فإذا مات صار إلى العذاب الدائم, وشقاء الأبد. اهـ.
وقال ابن تيمية: وإن كانت الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر, فأما ما وعد به المؤمن بعد الموت من كرامة الله فإنه تكون الدنيا بالنسبة إليه سجنًا, وما للكافر بعد الموت من عذاب الله فإنه تكون الدنيا جنة بالنسبة إلى ذلك. اهـ.
والله أعلم.