عنوان الفتوى : هل في التصبح بسبع تمرات وقاية من جميع أنواع السموم ؟
ما معنى هذا الحديث الوارد في " صحيح البخاري " في الكتاب الخامس والستين ، حديث رقم (356) : عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من أكل حين يصبح سبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر ). فهل معنى هذا أن من أكل التمر في الصباح فإنه محمي من كافة أنواع السم ، حتى من مثل سم السيانيد ؟
الحمد لله
في دلالة هذا الحديث جانبان ، جانب نؤمن به ونصدقه ولا نتردد فيه لوضوحه وظهوره ،
وجانب آخر نحاول فهمه وتفسيره والبحث فيه ، فليس هو من مسائل الإيمان واليقين .
أما ما نصدق به ولا نتردد فيه فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن التصبح
بالتمر ، وقاية نافعة من تأثير السم على جسم الإنسان ، ورد ذلك في قول الصادق
المصدوق عليه الصلاة والسلام ، وفي حديث صحيح متفق على صحته بأسانيد ناصعة كالشمس ،
وعن جماعة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، منها حديث سعد بن أبي وقاص رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ
تَمَرَاتٍ عَجْوَةً ، لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ )
رواه البخاري في " صحيحه " (رقم/5445) ومسلم في " صحيحه " (رقم/2047) .
فهذا القدر المتفق عليه الذي نقر به ، يتعلق بالمعنى الإجمالي للحديث ، وإثبات
صدوره عن النبي عليه الصلاة والسلام .
أما تفسير الحديث والبحث في حدود ألفاظه ونتائج تجاربه ، فذلك مجال رحب ، خاض فيه
العلماء قديما وحديثا ، وتعددت فيه الأنظار والأفهام ، بل تعددت فيه روايات الحديث
نفسه ، الأمر الذي يفتح الباب إلى النظر إلى مزيد من الأبحاث التجريبية ، واعتبارها
في معرفة دلالة الحديث ، وفهم قيوده وحدوده .
فقد قال ابن التين بأن المراد نخل خاص لا يعرف الآن ، وقال الخطابي رحمه الله ليس
ذلك خاصية من خواص التمر ، وإنما هي بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لعجوة
معينة . ينظر " فتح الباري " (10/239) ، وبناء على هذين القولين لا يمكن تعميم
وقاية التصبح بالتمر اليوم من جميع أنواع السموم .
وقال أكثر العلماء بتخصيص عجوة المدينة بهذا الوقاء ، كالطحاوي في " شرح مشكل
الآثار " (14/362) ، وأبو عوانة في "المستخرج" (5/189) ، والقاضي عياض في " إكمال
المعلم " (6/531) ، والنووي في " شرح مسلم " (14/3) ، وأبي العباس القرطبي الذي دعا
إلى إجراء التجارب لفهم دلالة الحديث ، فقال رحمه الله : " الذي ينبغي أن يقال إن
ذلك خاصة عجوة المدينة ، ثم هل ذلك مخصوص بزمان نطقه أو هو في كل زمان ؟ كل ذلك
محتمل ، والذي يرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة ، فإن وجدنا ذلك كذلك في هذا
الزمان ، علمنا أنها خاصة دائمة ، وإن لم نجده مع كثرة التجربة علمنا أن ذلك مخصوص
بزمان ذلك القول " .
انتهى من " المفهم " (5/322).
وقال الإمام المازري رحمه الله : " هذا مما لا يعقل معناه في طريقة علم الطب ، ولو
صح أن يخرج لمنفعة التمر في السم وجه من جهة الطب ، لم يقدر على إظهار وجه الاقتصار
على هذا العدد الذي هو السبع ، ولا على الاقتصار على هذا الجنس الذي هو العجوة ،
ولعل ذلك كان لأهل زمانه صلى الله عليه وسلم خاصة ، أو لأكثرهم ، إذ لم يثبت عندي
استمرار وقوع الشفاء في زمننا غالبا ، وإن وجد ذلك في زماننا في أكثر الناس حمل على
أنه أراد وصف غالب الحال " انتهى من " المعلم بفوائد مسلم " (3/121) .
وهكذا ترى كيف اختلف العلماء وشراح الحديث في توجيه دلالته ، وتفسير كلماته ، حتى
دخل هذا الاختلاف في أنواع السم المقصودة في الحديث ، فقال ابن القيم رحمه الله : "
يجوز نفع التمر المذكور في بعض السموم ، فيكون الحديث من العام المخصوص ، ويجوز
نفعه لخاصية تلك البلد ، وتلك التربة الخاصة من كل سم ، ولكن ها هنا أمر لا بد من
بيانه ، وهو أن من شرط انتفاع العليل بالدواء قبوله واعتقاد النفع به ، فتقبله
الطبيعة فتستعين به على دفع العلة " انتهى من " زاد المعاد " (4/92) .
وخالفه الحافظ ابن حجر رحمه الله – بعد أن نقل كلامه – فقال : " لكن سياق الخبر
يقتضي التعميم ؛ لأنه نكرة في سياق النفي ، وعلى تقدير التسليم في السم ، فماذا
يصنع في السحر " انتهى من " فتح الباري " (10/240) .
وأما الأبحاث التجريبية المعاصرة فقد وقفنا على مجموعة منها ، لكنها لم تتوصل إلى
نتائج حاسمة في جميع القضايا الخلافية السابقة ، وإنما إلى نتائج تدل على الجانب
الأول الذي ذكرناه في بداية الجواب ، وهو إثبات النفع العام للتمر من آثار السموم ،
من غير تحديد ولا تعيين .
ومن ذلك أنه قام كل من الدكتور عبدالكريم السلال ، والدكتور زهير ، والدكتور أحمد
ديسي ، بنشر بحث محكّم في مجلة (Biomedical Letters) في جامعة (Cambridge) بعنوان :
" دراسة تأثير خلاصة التمر على إبطال مفعول سم الحية والعقرب "، فكان في خلاصة
الدراسة أنه : " تم إعطاء أربعة متبرعين من (9 - 11) حبة تمر لكل منهم ، أما عينات
الدم فتم أخذها قبل أكل التمر وبعده بحوالي (4 - 5) ساعات ، فكشفت الدراسة أن عينات
الدم التي أخذت منهم بعد تناول التمر كانت مقاومة لسم الأفعى بنسبة (83%) ، وأن
نسبة امتصاص الهيموغلوبين لسم الأفعى وتأثيره على (3%) من خلايا الدم الحمراء قبل
تناول التمر كانت (0.542) ، وبعد تناول التمر أصبحت (0.09)، وقد وجدت الدراسة أو
التجربة أن إعطاء (5%) من خلاصة التمر أبطلت حوالي (34%) و (71%) من النشاط السمي
للأفعى والعقرب على التوالي ، وأن (20%) من خلاصة التمر أحبطت المفعول بنسب (87%) و
(100%) " انتهى .
وللنظر في تفاصيل هذه الدراسة المنشورة باللغة الانجليزية يمكن مراجعة المرجع الآتي
– وقد تمت ترجمة خلاصته فيما سبق - :
Abdul-karim j. sallal. A Zuhair S. Amr. A Ahmad M Disi, Inhibition of haemolytic
activity of snake and scorpion venom by date extract, Biomedical Letters, 55, 51
- 56, 1997.
هذا وقد أخبرنا الدكتور السلال أن التمر الذي تم إطعامه للمتبرعين من أردأ أنواع
التمور المتوافرة في أسواق الأردن ، وليس من عجوة المدينة ، ولا من تمر المدينة
المنورة كله .
كما يمكن مراجعة بحث الدكتورة أروى عبد الرحمن أحمد ( معاصر ، قسم علوم الحياة ،
كلية العلوم ، جامعة صنعاء ) ، بعنوان : " إعجاز التمر في الشفاء والوقاية من
الميكروبات الضارة والممرضة "، في " بحوث المؤتمر العالمي العاشر لأبحاث الإعجاز
العلمي " ، دار جياد للنشر (1/158 – 204).
وفيها أيضا بحث آخر للدكتورة ( ليلى أحمد الطيب الحمدي ، دينا الموصلي ) ، كلية
العلوم للبنات جامعة الملك عبد العزيز بعنوان : " العلاج النبوي بتمر العجوة في
حالات التسمم والتليف الرئوي بالجازولين " (2/125 – 146)، جاء فيه : " أوضحت هذه
الدراسة تأثير تمر العجوة العلاجي على التسمم والتليف الرئوي الناتج من استنشاق
أبخرة الجازولين ، مما يتيح الفرصة أمامنا للوصول إلى إثبات الأثر الإيجابي لهذا
التمر ، في معالجة الأنسجة المريضة في الأعضاء المختلفة ".
انظر هذه الأبحاث المعاصرة السابقة في رسالة بعنوان : " أثر العلم التجريبي في
الحكم على الحديث "، مقدمة في الجامعة الأردنية ، عام 2012م ، للباحث للدكتور جميل
أبو سارة .
وهكذا لم يجزم علماء الإسلام المتقدمون ولا المتأخرون بالتأثير المطلق لجميع أنواع
التمور ، في جميع أنواع السموم ، وإنما حاصل كلام مجموعهم يدل على ضرورة التفقه في
معنى الحديث ، والبحث فيه بحثا تجريبيا دقيقا ، ثم بعد ذلك يمكننا الجزم إن كانت
دلالة الحديث قد انقضت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كما قال بعض العلماء ، أم
إنها مستمرة ، كما هو ظاهر الحديث ؟
نحن في انتظار الأبحاث التجريبية الدقيقة التي تعيننا على فهم الحديث .
يقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله :
" إذا كان الطب الحديث لم يوفق في اكتشاف سائر خواص العجوة حتى الآن ، أفليس من
الخطأ التسرع إلى الحُكْمِ بوضعه ، وهل اِدَّعَى أحد أن الطب انتهى إلى غايته ، أو
أنه اكتشف كل خاصة لكل من المأكولات والمشروبات والنباتات والثمار التي في الدنيا ؟
إنك لا تشك معي في أن إقدام مؤلف " فجر الإسلام " على القطع بتكذيب هذا الحديث
جُرْأَةٌ بالغة منه ، لا يمكن أن تقبل في المحيط العلمي بأي حال ، ما دام سنده
صحيحاً بلا نزاع ، وما دام متنه صحيحاً على وجه الإجمال ، ولا يضره بعد ذلك أن الطب
لم يكتشف حتى الآن بقية ما دل عليه من خواص العجوة ، ويقيني أنه لو كان في الحجاز
معاهد طبية راقية ، أو لو كان تمر العالية موجوداً عند الغَرْبِيِّينَ ، لاستطاع
التحليل الطبي الحديث أن يكتشف فيه خواص كثيرة ، ولعله يستطيع أن يكتشف هذه الخاصة
العجيبة ، إن لم يكن اليوم ، ففي المستقبل إن شاء الله " .
انتهى من " السنة ومكانتها في التشريع " (ص285) .
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |