عنوان الفتوى : لا يصح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها رخّصت للمرأة المسلمة في كشف وجهها إلا حين لا يراها الأجانب .
هل صحيح أنه اُثر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إنه يجوز للمرأة أن تكشف وجهها إن هي أرادت ذلك ؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نجيب على من يستدل بهذا الأثر؟
الحمد لله
أولا :
الثابت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في مسألة ستر الوجه : هو الأمر به ،
والحث عليه ، وأنه من الحجاب الذي أمر الله به نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء
المؤمنين ، ويدل على ذلك ما يلي :
- جاء في حديث الإفك قول عائشة رضي الله عنها عن صفوان بن المعطل رضي الله عنه : (
فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي ، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ ) رواه البخاري
(4750) ، ورواه مسلم (2770) ولفظه : ( فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي وَقَدْ كَانَ
يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَىَّ ) .
فهذا يدل على أن آية الحجاب نزلت تأمر بستر الوجه وسائر البدن ، ولولا أنه كان
يراها قبل الحجاب ما عرفها .
- روى أبو داود (4102) عن
عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " يرحم الله نساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله
: ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) شققن أكنف مروطهن فاختمرن بها " . صححه الألباني
في "صحيح أبي داود" .
وعن صفية بنت شيبة قالت : " بينما نحن عند عائشة قالت : وذكرت نساء قريش وفضلهن ،
فقالت عائشة : " إن لنساء قريش لفضلاً ، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ؛
أشد تصديقاً بكتاب الله ، ولا إيماناً بالتنزيل ؛ لقد أنزلت سورة النور : ( وليضربن
بخمرهن على جيوبهن ) انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل إليهن فيها ، ويتلو
الرجل على امراته وابنته وأخته ، وعلى كل ذي قرابته ، ما منهن امرأة إلا قامت إلى
مرطها المرحل ، فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه ، فأصبحن يصلين
وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح معتجرات ، كأن على رؤوسهن الغربان ". رواه
ابن أبي حاتم في تفسيره (2575) .
- عن عائشة قالت : " كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمَاتٌ ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا ، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ " رواه أبو داود (1833) وقال الألباني في "جلباب المرأة المسلمة" (ص107) " حسن في الشواهد " .
قال علماء اللجنة :
" وإذا كان هذا في حالة الإحرام المطلوب فيه كشف وجه المرأة ، ففي غيرها أولى "
انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (17 /256) .
ثانيا :
أما ما يُروى عن عائشة رضي الله عنها من الرخصة في كشف الوجه فلا يصح ، ولا يجوز أن
يحتج به لضعفه ونكارته لمخالفته ما تقدم مما صح عنها من كون ستر الوجه من الحجاب
المأمور به ، وفي هذا حديثان :
الأول :
عن خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها : " أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق ، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقال : ( يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا
وهذا ) - وأشار إلى وجهه وكفيه " .
رواه أبو داود (4104) وضعفه بقوله " هذا مرسل ، خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي
الله عنها " .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" هذا حديث ضعيف جدا " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (26/226) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" هذا الحديث ضعيف سنداً ومنكرٌ متنا " انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (12/84) .
الثاني :
ما رواه البيهقي (2/226) من طريق عُقْبَة الأَصَمّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى رَبَاحٍ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : " ( مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) :
الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ " .
ضعفه الألباني بقوله : " عقبة بن الأصم ضعيف " .
انتهى من "الثمر المستطاب" (ص 304) .
وهو ضعيف جدا ، قال ابن معين : ليس بثقة ، وفي رواية : ليس بشيء ، وقال عمرو بن علي
: كان ضعيفا واهي الحديث ليس بالحافظ ، وقال النسائي: ليس بثقة ، وقال ابن حبان :
ينفرد عن المشاهير بالمناكير .
"تهذيب التهذيب" (7 /217-218) .
فتبين بما تقدم أن الصحيح الثابت عن عائشة رضي الله عنها هو الأمر بالحجاب الكامل ،
وهو ستر البدن كله ، بما في ذلك الوجه والكفان ، أما ما يُروى عنها بخلاف ذلك فلا
يصح عنها ، رضي الله عنها .
ثالثا :
أما ما رواه البيهقي (9316) عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتِ : "
الْمُحْرِمَةُ تَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ مَا شَاءَتْ إِلاَّ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ
أَوْ زَعْفَرَانٌ وَلاَ تَتَبَرْقَعُ وَلاَ تَلَثَّمُ وَتسْدلُ الثَّوْبَ عَلَى
وَجْهِهَا إِنْ شَاءَتْ " وصححه الألباني في " الرد المفحم " (ص 37) .
فلعل هذا الأثر هو ما يقصده
السائل ، ولذلك أفردناه بالكلام ، وهو وإن كان صحيح الإسناد ؛ إلا أن معناه ليس كما
يتبادر إلى الذهن من الرخصة في كشف المحرمة وجهها في كل حال ؛ فقد سبق بيان حالها
وحال من معها من النساء في ذلك ، من قولها هي ، رضي الله عنهن ، وأنهن كن يسدلن من
فوق رؤوسهن ، إذا قرب منهن الرجال .
وإنما مرادها بذلك ، والله أعلم : بيان الحكم الشرعي في أن المحرمة ليست ممنوعة من
ستر وجهها منعا مطلقا ، بل متى احتاجت إلى ذلك : سدلت الثوب من فوق رأسها ، كما سبق
من فعلها وفعل من معها ، ولا تغطيه بالنقاب ولا اللِّثام .
ويدل على ذلك ما رواه مسلم (1211) عن عَائِشَةُ رضى الله عنها أنها قالت - يعني في حجة الوداع - : " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَرْجِعُ النَّاسُ بِأَجْرَيْنِ وَأَرْجِعُ بِأَجْرٍ ؟ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى بَكْرٍ أَنْ يَنْطَلِقَ بِهَا إِلَى التَّنْعِيمِ ، قَالَتْ : فَأَرْدَفَنِى خَلْفَهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ - قَالَتْ - فَجَعَلْتُ أَرْفَعُ خِمَارِى أَحْسُرُهُ عَنْ عُنُقِى فَيَضْرِبُ رِجْلِى بِعِلَّةِ الرَّاحِلَةِ . قُلْتُ لَهُ : وَهَلْ تَرَى مِنْ أَحَدٍ ؟ " .
قال النووي رحمه الله :
" المعنى أنه يضرب رجل أخته بعود بيده ، عامدا لها ، في صورة من يضرب الراحلة ، حين
تكشف خمارها ؛ غيرة عليها ، ( وهل ترى من أحد ) : أي نحن في خلاء ليس هنا أجنبي
أستتر منه " انتهى .
وينظر ، لمعرفة الحالات التي
يجوز للمرأة فيها كشف الوجه : جواب السؤال رقم : (2198)
.
والله تعالى أعلم .