عنوان الفتوى : دعاء الأموات بين الشرك والابتداع
شيوخنا الكرام نحن نعلم بأنه لا يجوز بحال طلب أي شيء من شخص قد مات وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اختلف معي بعض الإخوة في حكم هذا الفعل، وهو أن يقول شخص يا رسول الله استغفر لي أو اشفع لي بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لهم هذا شرك، لأنه دعاء لغير الله، وأما أن يدعو الله ويقول بجاه فلان أو بحق فلان فهذه هي ما قال عنها العلماء أنها بدعة لأنه قد صرف الدعاء لله تعالى ولكن بحق فلان، ولكن بعض الإخوة يقولون لي بأن هذه الفعلة أيضاً وهي طلب الشفاعة والاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل أن يقول يا رسول الله اشفع لي، وهذا بعد موته إنما هي بدعة وليست شركا، بل يقولون بأن فيها خلافا بين الأئمة الأربعة، فأرجو من سماحتكم أن تدلني على شيء أقرأ منه ذلك الأمر، كما أرجو أن تتفضلوا علينا بالجواب الآن بنقل كلام الأئمة الأربعة في ذلك وأن تدلوني على أرقام الفتاوى في موقعكم التي تتحدث في هذا الأمر لكي ألم بهذا الأمر باستفاضة، وجزاكم الله عنا كل خير.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله استغفر لي ـ ونحو ذلك من طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، فهذا لا يجوز، وهو من البدع وذرائع الشرك، ومثل هذا قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة. اهـ. ووصفه في موضع آخر بقوله: ذريعة إلى الشرك. اهـ. وقد سبق لنا بيان ذلك في الفتوى رقم: 177455.
وقال شيخ الإسلام أيضا: فأما مجيء الإنسان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره وقوله: استغفر لي، أو سل لي ربك أو ادعو لي، أو قوله في مغيبه: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع لي أو استغفر لي أو سل لي ربك كذا وكذا فهذا لا أصل له ولم يأمر الله بذلك، ولا فعله واحد من سلف الأمة المعروفين في القرون الثلاثة، ولا كان ذلك معروفا بينهم، ولو كان هذا مما يستحب لكان السلف يفعلون ذلك ولكان ذلك معروفا فيهم، بل مشهورا بينهم ومنقولا عنهم، فإن مثل هذا إذا كان طريقا إلى غفران السيئات وقضاء الحاجات لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على فعله وعلى نقله لا سيما فيمن كانوا أحرص الناس على الخير، فإذا لم يعرف أنهم كانوا يفعلون ذلك ولا نقله أحد عنهم علم أنه لم يكن مما يستحب ويؤمر به. اهـ.
وقال في موضع آخر: قد حدث من بعض المتأخرين في ذلك بدع لم يستحبها أحد من الأئمة الأربعة كسؤاله الاستغفار، وزاد بعض جهّال العامة ما هو محرم أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها، وأمثال ذلك مما ليس هذا موضعه. اهـ.
وقال الدكتور شمس الدين الأفغاني في رسالته للدكتوراة ـ جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية: قال الإمام الآلوسي محمود المفسر، مفتي الحنفية ببغداد، وتبعه ابنه نعمان الآلوسي، والعلامة الخجندي، واللفظ للأول: وتحقيق الكلام في هذا المقام: أن الاستغاثة بمخلوق، وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حيا... وأما إذا كان المطلوب منه ميتا أو غائبا فلا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف... اهـ.
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ في كشف شبهات ابن جرجيس: ثم يقال لهذا المشرك: أنت إذا دعوت هذا فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على إجابة سؤالك أو أرحم بك من ربّك، فهذا جهل وضلال وكفر، وإن كنت تعلم أن الله أعلم وأقدر وأرحم، فلماذا عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره... وإن قلت: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيب لي إذا دعوته أنا، فهذا هو القسم الثاني، وهو: ألا يطلب منه الفعل ولا يدعوه، ولكن يطلب أن يدعو له، كما يقول للحي: ادع لي، وكما كان الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، فهذا مشروع في الحي ـ كما تقدم ـ وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا، ولا اسأل لنا ربك، ولا نحو ذلك، ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد فيه حديث... بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان. اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين: سؤال الميت أن يسأل الله أو سؤال قضاء الحاجة بينهما فرق، إذا سأل قضاء الحاجة فهذا شرك أكبر، وإذا سأل أن يسأل الله فهذا بدعة وضلالة، لأن الميت إذا مات انقطع عمله، والدعاء من عمله، فكيف تسأله ما لا يمكن فإذا جئت إلى ميت وقلت: ادع الله لي، فإنه لن يدعو الله لك، ومن ذلك تقول عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم: اشفع لي، فإن هذا حرام وبدعة منكرة، لكن إذا قلت: يا رسول الله أنجني من النار، كان شركا أكبر. اهـ.
وأما أقوال الأئمة في ذلك، وذكر مراجع هذه المسألة، فقد سبق لنا ذكر شيء من ذلك في الفتوى رقم: 128815
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 14616.
ومن أهل العلم من نص على الفرق بين القريب من القبر، والبعيد أو الغائب عنه، لأن الأخير لم يطلب من الميت الدعاء وهو بعيد عن قبره إلا لاعتقاده أنه يعلم الغيب، قال الشيخ بكر أبو زيد في كتاب ـ تصحيح الدعاء ـ في مسألة سؤال الحي لميت بأن يدعو الله له: في هذا النوع فرعان:
1ـ سؤال حي لميت وهو غائب عن قبره بأن يدعو الله له، وهذا النوع لا يختلف المسلمون بأنه شرك أكبر، وأنه من جنس شرك النصارى في مريم وابنها ـ عليهما السلام ـ بدعائهما، وأنهما يعلمان ما يفعله العباد حسب مزاعم النصارى.
2ـ سؤال حي لميت بحضرة قبره بأن يدعو الله له، مثل قول عباد القبور مخاطبين لها: يا فلان ادعو الله لي بكذا وكذا أو أسألك أن تدعو الله لي بكذا وكذا، فهذا لا يختلف المسلمون بأنه واسطة بدعية، ووسيلة مفضية إلى الشرك بالله ودعاء الأموات من دون الله وصرف القلوب عن الله، لكن هذا النوع يكون شركا أكبر في حال ما إذا أراد الداعي من صاحب القبر الشفاعة والوساطة الشركية على حد عمل المشركين: ما نعبدهم إلا ليقربونا اى الله زلفى. اهـ.
وقال الشيخ عبد الرحمن البراك: من أنواع الشرك الأكبر شرك الدعاء، وهو دعاء الأموات والغائبين في قضاء الحوائج والاستغاثة بهم في الشدائد، وطلب النصر والرزق منهم، سواء طلب ذلك من الميت من قرب أو بعد، إذا كان الداعي والطالب يعتقد أنه يفعل ذلك بقدرته، وحينئذ يكون قد جمع بين الشرك في الربوبية والشرك في العبادة، وأما إذا كان الداعي للميت يطلب منه أن يدعو الله له، وهو قريب من قبره لاعتقاده أنه يسمع، فذلك بدعة ووسيلة إلى الشرك، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كلامه. اهـ.
وأما ما طلبه الأخ السائل من تحرير النقل عن الأئمة الأربعة في هذه المسألة فلا نجد لهم نصوصا فيها.
والله أعلم.