عنوان الفتوى : طهارة وصلاة من يخرج منه دم البواسير
قد ابتليت بمرض الناسور وهو تكون خراج عصعصي في أسفل الظهر، وهذا الخراج غالبا ما يكون ممتلئا بالدماء وما إلى ذلك وفي أوقات كثيرة ينفتح هذا الخراج دون أن أشعر، فهل يبطل ذلك صلاتي؟ وغالبا ما يستمر النزيف على فترات متقطعة أكثر من 3 أو 4 أيام؟ ولكم جزيل الشكر ووفقكم الله.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى لك الشفاء من هذا البلاء، أما فيما يتعلق بالسؤال فإن كان السائل يعني بقوله عن الخراج المذكور (غالبا يكون ممتلئا بالدماء) ما يوجد بداخله دون أن يخرج بالفعل فإن ذلك لا يؤثر على صحة الصلاة، مثل سائر النجاسات الموجودة داخل البدن، وإن خرج بالفعل فلا يخلو حال الخراج من أن يكون داخل الدبر أو يكون خارجه، فإن كان خارجه فما يسيل منه غير ناقض للوضوء، وكذلك ما يسيل منه في حال بروزه وخروجه من الدبر، وحكمه حكم خروج الدم من سائر أجزاء الجسم والخلاف فيه معروف، والراجح أنه لا ينقض الوضوء، لكنه نجس يجب التحرز منه بقدر المستطاع، وما يصيب منه بعد التحفظ والتحرز معفو عنه، لأن الله سبحانه وتعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، قال النووي ـ رحمه الله: وأما صاحب الناصور والجرح السائل فهما كالمستحاضة في وجوب غسل الدم لكل فريضة والشد على محله، ولا يجب الوضوء في مسألة الجرح ولا في مسألة الناسور إلا أن يكون في داخل مقعدته بحيث ينقض الوضوء. انتهى.
وفي حاشية إعانة الطالبين: قوله: كدم باسور أي داخل الدبر، فلو خرج الباسور ثم توضأ ثم خرج منه دم فلا نقض، وكذا لو خرج من الباسور النابت خارج الدبر.
وقال الحجاوي في الإقناع: وإن كان مما لا يمكن عصبه كالجرح الذي لا يمكن شده أو من به باسور أو ناصور ولا يمكن عصبه صلى على حسب حاله. انتهى.
وفي شرح زاد المستقنع للشنقيطي: ودم البواسير يأتي على صور: إن كانت ثآلِيله أو جروحه على الحلقة نفسها فهذا ليس بخارج، لأنه ليس من الموضع، ويقع الخلاف فيه في مسألة وهي: إذا خرج الدم من غير القُبُل والدُّبُر، هل ينقض الوضوء؟ وسنبينها ـ إن شاء الله ـ والصحيح: أنه إذا كانت البواسير قروحها أو دماملها على الحلقة أو على أطرف الحلقة الخارجية فخروج الدم لا يوجب انتقاض الوضوء، أما إذا كانت من الداخل، وينبعث دمها إلى الخارج، فإنه يأخذ حكم دم الاستحاضة، فإن غلب الإنسان حتى استرسل معه في وقت الصلاة، فإنه يغسل الموضع ويضع قطنة، ويتوضأ عند دخول وقت كل صلاة، وأما إذا كان الدم يسيراً ويمكن التحرز منه وجب غسله كالبول والغائط سواء بسواء، إذاً دم البواسير له حالتان:
الحالة الأولى: أن يسترسل ويصبح آخذاً الوقت أو أكثرَ الوقت، فهذا إذا دخل عليه الوقت غَسَل الموضع ثم شَدَّه بقطنة ـ إذا أمكن ـ كالمستحاضة، وذلك للمشقة، ثم يصلي ولو جرى معه الدم، لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلاَّ وُسْعَهَا { البقرة:286}.
الحالة الثانية: أن يكون دم البواسير يخرج نَزْراً قليلاً، بحيث يتأتى منه أنه لو أنقى موضعه استقام له أن يصلي دون أن يخرج شيء، فهذا يجب عليه إنقاء الموضع واللباس الذي يليه، ثم يتوضأ ويصلي. انتهى.
وما يخرج من الدم أثناء الصلاة، وعلمت به أثناءها، فإن كان يسيرا فهو مما يعفى عنه فلا تبطل به الصلاة، واليسير مقدار الدرهم فما دونه، أو ما يعتبر يسيرا عرفا، وإن كان كثيرا فقيل لا يعفى عنه وتبطل الصلاة به ويجب قضاؤها بشرط أن تكون عالما بأنه يفسد الصلاة، بناء على أن الجهل مثل النسيان، وهذا القول هو الأحوط، وقيل يعفى عن الدم الخارج من الشخص نفسه إذا لم يكن متسببا في خروجه مثل دم البثرة ونحو ذلك مما يعسرالاحتراز منه، ولو كان كثيرا، ففي إرشاد الساري على صحيح البخاري للقسطلاني عند كلامه على قول البخاري: بابُ مَنْ لَمْ يَرَ الوُضُوءَ إِلَّا مِنَ المَخْرَجَيْنِ: مِنَ القُبُلِ وَالدُّبُرِ.. وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَنَزَفَهُ الدَّمُ، فَرَكَعَ، وَسَجَدَ وَمَضَى فِي صَلاَتِهِ، وَقَالَ الحَسَنُ: مَا زَالَ المُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ، قال: وفيه رد على الحنفية حيث قالوا: ينتقض الوضوء إذا سال الدم، لكن يشكل عليه الصلاة مع وجود الدم في بدنه أو ثوبه المستلزم لبطلان الصلاة للنجاسة، وأجيب باحتمال عدم إصابة الدم لهما أو إصابة الثوب فقط ونزعه عنه في الحال ولم يسل على جسده إلا مقدار ما يعفى عنه، كذا قرره الحافظ ابن حجر والبرماوي والعيني وغيرهم وهو مبني على عدم العفو عن كثير دم نفسه فيكون كدم الأجنبي فلا يعفى إلا عن قليله فقط وهو الذي صححه النووي في المجموع والتحقيق، وصحح في المنهاج والروضة أنه كدم البثرة وقضيته العفو عن قليله وكثيره، وقد صح أن عمر ـ رضي الله عنه ـ صلى وجرحه ينزف دمًا.
وفي تحفة المحتاج في شرح المنهاج في الفقه الشافعي: وَالدَّمَامِيلُ وَالْقُرُوحُ وَمَوْضِعُ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ قِيلَ كَالْبَثَرَاتِ فَيُعْفَى عَنْ دَمِهَا قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مَا لَمْ يَكُنْ بِعَصْرِهِ فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فَقَطْ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِثْلُهُ أَيْ مَا ذَكَرَ يَدُومُ غَالِبًا فَكَالِاسْتِحَاضَةِ فَيَجِبُ الْحَشْوُ وَالْعَصْبُ كَمَا مَرَّ فِيهَا ثُمَّ مَا خَرَجَ بَعْدُ عُفِّيَ عَنْهُ وَإِلَّا يدَومِ مِثْلِهِ غَالِبًا فَكَدَمِ الْأَجْنَبِيِّ يُصِيبُهُ فَلَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ لِلْأَوَّلِ وَحْدَهُ أَوْ لِلثَّانِي وَحْدَهُ كَمَا قَالَ بِكُلٍّ شَارِحٌ، وَقِيلَ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ، قُلْت: الْأَصَحُّ أَنَّهَا كَالْبَثَرَاتِ فِيمَا مَرَّ، لِأَنَّهَا غَيْرُ نَادِرَةٍ وَإِذَا وُجِدَتْ دَامَتْ وَتَعَذَّرَ الِاحْتِرَازُ عَنْ لَطْخِهَا. انتهى.
أما ما يتعين فعله في الأوقات التي يحصل فيها النزيف فيجب غسله والتحفظ منه قدر المستطاع عند القيام للصلاة، وما عسر الاحتراز منه يعفى عنه دفعا للمشقة وجلبا للتيسير، ففي مختصر خليل في الفقه المالكي: وعفي عما يعسر ـ قال في منح الجليل: وعفي عما أي كل نجاسة يعسر أي يصعب ويشق الاحتراز عنه، وهذه قاعدة كلية. انتهى.
وهذا من يسر الشريعة وسهولتها كما قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ {الحج: 78}.
أما ما يخرج من الدم أثناء الصلاة دون أن تشعر به، فمختلف في تأثيره على صحة الصلاة والراجح أنها صحيحة، لأن اجتناب النجاسة شرط مع العلم والقدرة، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 133421.
وإن كان الدم يخرج من الدبر فهو ناقض للوضوء، وقد سبق في الفتويين رقم: 126352، ورقم: 147027، بيان كيفية الطهارة في هذه الحالة بالتفصيل.
ولبيان القدر المعفو عنه من الدم انظر الفتوى رقم: 18639.
والله أعلم.