عنوان الفتوى : حرية الرأي في منظار الإسلام
شاهدت لأحد المنتسبين للتدين والعلم ممن درسوا في الغرب وتأثروا بأفكارهم مقطعا مصوراً على موقع اليوتيوب بعنوان: حدود حرية التعبير لدى طارق ... وقد تكلم فيه عن حرية التعبير وأنه يجوز الاعتراض على الإسلام وعلى الله ورسوله ـ والعياذ بالله من هذا الكلام ـ وقد استدل بذكر القرآن الكريم لإساءات المنافقين! لقد حكى القرآن الكفر الصريح عن فرعون عندما قال: أنا ربكم الأعلى ـ فهل معنى هذا أن القرآن يجيز التلفظ بألفاظ الكفر؟ في ظل قول الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ـ ماهي ضوابط حرية التعبير في ديننا الإسلامي الحنيف؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن المعلوم أن كل من يتناول موضوع حرية التعبير وإبداء الرأي من العقلاء والحكماء يقف بها عند حدٍّ يراه ضروريا لمنع الفساد والخلل العام، فمنهم من يرى تقييدها بالعرف والذوق الاجتماعي العام، ومنهم من يقيدها بالقانون المعمول به في هذه البلد أو تلك، ومنهم من لا يقف بها إلا عند الاصطدام بحرية الآخرين ... ومنهم من يقيدها بقيد الفساد الأخلاقي، والمقصود أن العقلاء كادوا أن يتفقوا على أن الحرية لابد من تقييدها بقيد، فالحرية بإطلاق لا تعني إلا الفساد بإطلاق!! وإذا كان ذلك كذلك فكل أمة تقيد الحريات في مجتمعاتها بما يتناسب مع معتقداتها وأعرافها ومصالح شعبها فدولة مثل بريطانيا مثلا قد منعت فيلما عن المسيح، وأيدت محاكمها وقضاؤها ذلك، بل وأيدته محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، بحيثية أن الدين المسيحي من النظام العام الذي يجب مراعاته، وعلى أية حال، فالأمة الإسلامية أبعد الناس عن الشطط في هذا المرتع الوخيم من الأفكار السخيفة المضللة، والمذاهب الوضعية المخربة، حيث تجمع بين مزايا المناهج المتعارضة، فهي إن قيدت الحريات فإنما تقيدها بقيد الشرع الحنيف، الذي لا يحابي أحدا، ولا يحكمه هوى أو مصلحة خاصة أو نظرة ضيقة، فمن راعى هذا القيد المنصف فله حق التعبير عن رأيه بحرية وأمان، ولو كان خصمه من كان، فعن أبي سعيد الخدري قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينا كان عليه فاشتد عليه حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟ قال: إني أطلب حقي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا مع صاحب الحق كنتم، ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضيك، فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله، قال: فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال: أوفيت أوفى الله لك، فقال: أولئك خيار الناس، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع. رواه ابن ماجه، وصححه البوصيري والألباني.
فهذه هي شريعتنا التي نقيِّد بها الحريات، وأنت ترى كيف رفعت من شأن حرية التعبير ما دام ذلك في الحق الذي جاءت لإقامته بين الناس، فالشرع مصلحة كله، وأينما وجد العدل الحق فثم شرع الله، فالمقصود أن شرط عدم الخروج عن حدود الشرع المطهر في حرية التعبير لابد من مراعاته، وإلا فهي فساد يجب محاربته، والقيام بحق الله فيه، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد السفيه، وأما مسألة ذكر القرآن الكريم لإساءات المنافقين، وحكايته للكفر الصريح عن فرعون وغيره ... فهذا مما يطول العجب من الاستدلال به .. فهل ذكر القرآن ذلك إباحة ً له، ورفعا للحرج عن فاعليه وقائليه وإشادة بحرية التعبير والرأي؟!! أم ذكر ذلك تشنيعا له، وإنكارا على أصحابه، وتحرضا للمؤمنين على معادتهم في الله والأخذ على أيديهم، وإلا فقد وصف الله المؤمنين في سورة التوبة التي فضحت المنافقين وأظهرت أحوالهم، فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {التوبة: 71}.
فبدأ من أوصافهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو عماد عُدّة مجابهة النفاق وأهله، وقد قال الله عز وجل بعدها: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {التوبة: 73}.
فهذا هو أمر الله تعالى في حق هؤلاء: مجاهدتهم والإغلاظ عليهم، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 100358.
وقد سئل الشيخ ابن باز: هل يجوز أن يكون هناك ما يسمى بـحرية الرأي أي: يفتح المجال لأهل الخير وأهل الشر، كل يدلي بدلوه في المجتمع؟ فأجاب: هذا باطل، لا أصل له في الإسلام، بل يجب أن يمنع الباطل، ويسمح للحق، ولا يجوز أن يسمح لأحد يدعو إلي الشيوعية، أو الوثنية، أو يدعو إلى الزنا، أو القمار، أو غير ذلك، سواء بالأسلوب المباشر، أم غير المباشر، بل يمنع، ويؤدب، بل إن هذه هي الإباحية المحرمة. اهـ.
وإذا أردنا أن نضع لحرية التعبير ضوابط تتحقق بها المصلحة للأفراد والدول، فيمكن أن يستفاد ذلك مما قاله الدكتور الصلابي في كتاب الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية، فقد ذكر الحرية ضمن المقاصد التي دعا إليها القرآن الكريم فقال: إبطال عبودية البشر للبشر وتعميم الحرية، لكل الناس ومن قواعد الفقه قول الفقهاء: الشارع متشوف للحرية فذلك استقراؤه من تصرفات الشريعة التي دلت على أن من أهم مقاصدها إبطال العبودية وتعميم الحرية. اهـ.
ثم ذكر أنواع من الحريات منها حرية التعبير وقال: هي التصريح بالرأي والاعتقاد في منطقة الإذن الشرعي، وقد أمر الله ببعضها في قوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وقال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، وقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، وقال تعالى: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ـ وقد جاء التوجيه القرآني الكريم بالتزام القول الحسن وترك ما عداه مما لا فائدة منه، أو مما فيه مضرة في الدين أو في العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع المسلم، وقد حدد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ضوابط الكلام، وآدابه تحديداً دقيقاً، وواضحاً نجمل شيئاً منه فيما يلي:
1 ـ الضوابط المتعلقة باللفظ في مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
2ـ الضوابط المتعلقة بالمضمون في مثل قوله سبحانه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ.
3ـ الضوابط المتعلقة بالهدف والأسلوب في مثل قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا.
4ـ الضوابط المتعلقة بالتوقف والتثبت من المصدر في مثل قوله تعالى: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ـ والآية الأخيرة: إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع، وعن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن قيل وقال الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبيت، ولا تدبر، ولا تبين.
5ـ كما حرم الله ورسوله الكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور والسب والشتم والقذف في أدلة ظاهرة معلومة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة. اهـ.
ثم إننا نحيل الأخ السائل في هذه المسألة التي كثر فيها الكلام والجدال على كتاب: مفهوم الحرية بين الإسلام والجاهلية للباحث علي بن نايف الشحود.
والله أعلم.