عنوان الفتوى : مجالسة مرتكب المنكر أم هجره.. رؤية شرعية
في كل أسبوع يجتمع في يوم رجال وشباب العائلة للعشاء في بيت كبيرهم. وكثير من الرجال يدخن والشباب يرتدون (الشورت) القصير فوق الركبة. حاولت أن أنصحهم لكنهم لا يصغون إلي. هل جلوسي في مجلسهم لا يجوز والملائكة لا تدخله؟ وهل عدم ذكر الله علنا في المجلس وليس سرا في نفسي يندرج تحت حديث في ما معناه أنه من لا يذكر الله في مجلس كان عليه من الله ترة؟ أرجو الإفادة و جزاكم الله خيرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالتواصل والمجالسة بين الأقارب أمر مشروع مرغب فيه ولا سيما إذا كان لله تعالى، لما في الحديث القدسي: وجبت محبتي للمتحابين والمتجالسين في والمتزاورين في. رواه مالك في الموطأ بسند صحيح.
وإذا حصل التواصل والتجالس فينبغي أن توظف الأوقات في تدارس علم أو تواص بالحق والصبر وتناصح، فقد رغب الشارع في ذلك فقد قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) وفي الحديث القدسي: حقت محبتي على المتحابين في، وحقت محبتي على المتناصحين في. رواه ابن حبان وصححه الألباني.
وفي المسند عن أنس قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعال نؤمن بربنا ساعة. فقال: ذات يوم لرجل فغضب الرجل، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة. والحديث حسن إسناده الهيثمي والعجلوني. وعن ثابت البناني عن أبي مدينة الدارمي قال: كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر والعصر إن الإنسان لفي خسر. رواه الطبراني في الأوسط وصححه الألباني.
وأما شرب الدخان فقد سبق بيان حكمه في الفتوى رقم :1671.
وأما عن لبس قصير الثياب. فعورة الرجل عند جمهور العلماء هي ما بين السرة والركبة؛ لما أخرجه أحمد في مسنده عن جرهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه كشف عن فخذه، فقال: غط فخذك فإن الفخذ من العورة. رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع..
وروى أحمد وأبو داود والدارقطني بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما بين السرة والركبة عورة.
وروى أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تكشف فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت".
وذهب الإمام أحمد في الرواية الثانية عنه، وابن أبي ذئب وداود إلى أن العورة هي الفرجان فقط، لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتى أني لأنظر إلى بياض فخذ النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري و مسلم.
وما ذهب إليه الجمهور من أن عورة الرجل ما بين السرة والركبة أحوط، قال البخاري: حديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط.
وأما عن الجلوس معهم مع الانكار عليهم وبيان الحكم الشرعي لهم فهو جائز حتى ولو لم يقبلوا نصحك لهم، إن كنت تأمن التأثر بهم، فإن الله تعالى لما قال: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {الأنعام:68}. قال بعدها: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {الأنعام:69}.
قال السعدي: هذا النهي والتحريم لمن جلس معهم ولم يستعمل تقوى الله بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم وعن الإنكار، فإن استعمل تقوى الله تعالى بأن كان يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زوال الشر، أو تخفيفه، فهذا ليس عليه حرج ولا إثم، ولهذا قال: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ـ أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم لعلهم يتقون الله تعالى. اهـ.
وأما مجالسة من يرتكب المنكر مع القدرة على مفارقته ومع عدم الإنكار عليه فغير جائز، وهؤلاء الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ تركوا مجالسة من يفعل الحرام أيا ما كان، بل تركوا مجالسة من يفعل المكروه لشدة ورعهم، قال البخاري: باب هل يرجع إذا رأى منكرا في الدعوة، وَرَأَى أَبُو مَسْعُودٍ صُورَةً فِي البَيْتِ، فَرَجَعَ وَدَعَا ابْنُ عُمَرَ أَبَا أَيُّوبَ فَرَأَى فِي البَيْتِ سِتْرًا عَلَى الجِدَارِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: غَلَبَنَا عَلَيْهِ النِّسَاءُ، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهِ فَلَمْ أَكُنْ أَخْشَى عَلَيْكَ، وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا، فَرَجَعَ. انتهى.
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فيها تَصَاوِيرُ، فلما رَآهَا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قام على الْبَابِ فلم يَدْخُلْ ... الحديث .
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قال ابن بطال : فيه أنه لا يجوز الدخول في الدعوة يكون فيها منكر مما نهى الله ورسوله عنه لما في ذلك من إظهار الرضا بها، ونقل مذاهب القدماء في ذلك، وحاصله إن كان هناك محرم وقدر على إزالته فأزاله فلا بأس، وإن لم يقدر فليرجع، وإن كان مما يكره كراهة تنزيه فلا يخفى الورع .... وقد فصل العلماء ذلك على ما أشرت إليه قالوا: إن كان لهوا مما اختلف فيه فيجوز الحضور والأولى الترك، وإن كان حراما كشرب الخمر نظر فإن كان المدعو ممن إذا حضر رفع لأجله فليحضر، وإن لم يكن كذلك ففيه للشافعية وجهان؛ أحدهما: يحضر وينكر بحسب قدرته وإن كان الأولى أن لا يحضر ... والوجه الثاني للشافعية: تحريم الحضور لأنه كالرضا بالمنكر ... فإن لم يعلم حتى حضر فلينههم فإن لم ينتهوا فليخرج إلا إن خاف على نفسه من ذلك، وعلى ذلك جرى الحنابلة، وكذا اعتبر المالكية في وجوب الإجابة أن لا يكون هناك منكر، وإذا كان من أهل الهيئة لا ينبغي له أن يحضر موضعا فيه لهو أصلا، حكاه ابن بطال وغيره عن مالك ويؤيد منع الحضور حديث عمران بن حصين: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجابة طعام الفاسقين. أخرجه الطبراني في الأوسط. ويؤيده مع وجود الأمر المحرم ما أخرجه النسائي من حديث جابر مرفوعا: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر. وإسناده جيد . انتهـى .
وقال صاحب الروض المربع -وهو من كتب الحنابلة – عن إجابة الدعوة المشتملة على أمر محرم: وإن علم المدعو ثم -أي في الوليمة- منكرا كزمر، وخمر، وآلات لهو ، وفرش حرير، ونحوها، فإن كان يقدر على تغييره، حضر وغير لأنه يؤدي بذلك فرضين إجابة الدعوة، وإزالة المنكر، وإلا يقدر على تغييره أبى الحضور، لحديث عمر مرفوعا: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر. رواه الترمذي . وإن حضر من غير علم بالمنكر ثم علم به أزاله لوجوبه عليه، ويجلس بعد ذلك، فإن دام المنكر لعجزه -أي المدعو- عنه انصرف لئلا يكون قاصدا لرؤيته وسماعه . وإن علم المدعو به -أي بالمنكر- ولم يره ، ولم يسمعه خير بين الجلوس والأكل والانصراف لعدم وجوب الإنكار حينئذ . .... انتهى.
وقال الغزالي: فكل من شاهد منكرا ولم ينكره فهو شريك فيه، فالمستمع شريك المغتاب، ويجري هذا في جميع المعاصي في مجالسة من يلبس الديباج ويتختم بذهب ويجلس على حرير وجلوس في دار أو حمام على حيطانها صور أو فيها أواني من ذهب أو فضة، وجلوس بمسجد يسيء الصلاة فيه فلا يتمون الركوع والسجود، أو بمجلس وعظ يجري به ذكر بدعة ومجلس مناظرة أو مجادلة يجري فيه الإيذاء والفحش. انتهى.
فالواجب إذا هو النهي عن المنكر سواء كان من كبار الذنوب أو صغارها، فإن عجز المسلم عن النهي لم يجز له مجالسة من يرتكب المنكر حال ارتكابه له، فإن اضطر لذلك أو دعته إليه حاجة فهنا يسعه أن ينكر بقلبه وليس عليه إثم.
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله: فالرجل لو يسمع الكفر والكذب والغيبة والغناء والشبابة من غير قصد منه، بل كان مجتازا بطريق فسمع ذلك لم يأثم بذلك باتفاق المسلمين، ولو جلس واستمع إلى ذلك ولم ينكره لا بقلبه ولا بلسانه ولا يده كان آثما باتفاق المسلمين، كما قال تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون، وقال تعالى: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ـ فجعل القاعد المستمع من غير إنكار بمنزلة الفاعل، ولهذا يقال: المستمع شريك المغتاب، وفي الأثر: من شهد المعصية وكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهدها، فإذا شهدها لحاجة أو لإكراه أنكرها بقلبه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. انتهى.
ثم إنه يختلف الحال في هجرهم بحسب قوة تأثير ذلك عليهم وحسب التأكد من عدم التأثر بهم، فمن كان اعتزاله لهم يؤثر فيهم فالاولى اعتزاله لعلهم يتوبون، ومن كان اعتزاله لا يؤثر فالأولى به الصبر كما صبر الأنبياء على أممهم ولم يهجروهم، ومن كان يخشى التأثر فيتعين عليه النجاة بنفسه فالصاحب ساحب كما في المثل. فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى:
الهجر الشرعي نوعان: أحدهما بمعنى الترك للمنكرات. والثاني: بمعنى العقوبة عليها. فالأول هو المذكور في قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {الأنعام: 68}. وقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا {النساء: 140}. فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم، وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم وأمثال ذلك، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم أو حضر بغير اختياره، ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله، وفي الحديث: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر. وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات كما قال: المهاجر من هجر ما نهى الله عنه. ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الاسلام والايمان، فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به. ومن هذا قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ {المدثر:5}. النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغيرعذر، ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقا، فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير. وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي يتألف قوما ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم، لأن أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم. هذا، كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح. وإذا عرف هذا فالهجرة الشرعية: هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله وأن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صوابا، فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجرا غير مأمور به كان خارجا عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله. فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه فالأول مأمور به والثاني منهي عنه، لأن المؤمنين إخوة، وقد قال النبي في الحديث الصحيح: لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم. وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية فهو من جنس الجهاد في سبيل الله وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، والمؤمن عليه أن يعادى في الله ويوالى في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ {الحجرات: 9-10}. فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم، فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه . وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقا للثواب فقط ولا مستحقا للعقاب فقط، وأهل السنة يقولون إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته، كما استفاضت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: ينبغي على المؤمن أن ينظر في هذه المقامات بنظرالإيمان والشرع والتجرد من الهوى، فإذا كان هجره للمبتدع وبعده عنه لا يترتب عليه شر أعظم فإن هجره حق، وأقل أحواله أن يكون سنة، وهكذا هجر من أعلن المعاصي وأظهرها أقل أحواله أنه سنة، أما إن كان عدم الهجر أصلح لأنه يرى أن دعوة هؤلاء المبتدعين وإرشادهم إلى السنة وتعليمهم ما أوجب الله عليهم يؤثر فيهم ويزيدهم هدى فلا يعجل في الهجر، ولكن يبغضهم في الله كما يبغض الكفار والعصاة، لكن يكون بغضه للكفار أشد، مع دعوتهم إلى الله سبحانه والحرص على هدايتهم عملا بجميع الأدلة الشرعية، ويبغض المبتدع على قدر بدعته إن كانت غير مكفرة، ويبغض العاصي على قدر معصيته، ويحبه في الله على قدر إسلامه وإيمانه، وبذلك يعلم أن الهجر فيه تفصيل. والخلاصة: أن الأرجح والأولى النظر إلى المصلحة الشرعية في ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم هجر قوما وترك آخرين لم يهجرهم مراعاة للمصلحة الشرعية الإسلامية، فهجر كعب بن مالك وصاحبيه ـ رضي الله عنهم ـ لما تخلفوا عن غزوة تبوك بغير عذر، هجرهم خمسين ليلة حتى تابوا فتاب الله عليهم، ولم يهجر عبد الله بن أبي بن سلول وجماعة من المتهمين بالنفاق لأسباب شرعية دعت إلى ذلك، فالمؤمن ينظر في الأصلح وهذا لا ينافي بغض الكافر والمبتدع والعاصي في الله سبحانه ومحبة المسلم في الله عز وجل، وعليه أن يراعي المصلحة العامة في ذلك، فإن اقتضت الهجر هجر، وإن اقتضت المصلحة الشرعية الاستمرار في دعوتهم إلى الله عز وجل وعدم هجرهم فعل ذلك مراعاة لهديه صلى الله عليه وسلم. اهـ.
و أما الذكر في المجلس فهو مطلب شرعي فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرهب من المجالس التي لا يذكر الله فيها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة. رواه أبو داود . وقال أيضا: ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على نبيهم فيه إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم. رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
والحديثان صححهما الألباني. والترة هنا النقص أو القطيعة أو الخسارة أو تبعة من الله عليهم.
والذكر يحصل بما فيه ذكر اسم الله تعالى ولو بكفارة المجلس عند النهاية. فقد قال الشيخ العثيمين في شرح رياض الصالحين عند شرح حديث: ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار.
قال رحمه الله: هذه الأحاديث تدل على أنه ينبغي للإنسان إذا جلس مجلسا أن يغتنم ذكر الله عز وجل والصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث إنها تدل على أنه ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا كان عليهم من الله ترة يعني قطيعة وخسارة إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، ويتحقق ذكر الله عز وجل في المجالس بصور عديدة فمثلا إذا تحدث أحد الأشخاص في المجلس عن آية من آيات الله عز وجل فإن هذا من ذكر الله، مثل أن يذكر حالة من أحوال النبي عليه الصلاة والسلام مثل أن يقول كان النبي عليه الصلاة والسلام أخشى الناس لله وأتقاهم لله فيذكر عليه الصلاة والسلام ثم يصلي عليه والحاضرون يكونون إذا استمعوا إليه مثله في الأجر هكذا يكون ذكر الله عز وجل والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ومن ذلك أيضا أنه إذا انتهى المجلس وأراد أن يقوم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وفي هذه الأحاديث دليل على أنه ينبغي للإنسان ألا يفوت عليه مجلسا ولا مضطجعا إلا يذكر الله حتى يكون ممن قال الله فيهم: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ....اهـ
وأما حضور الملائكة هذه المجالس فقد دلت الأحاديث على أن الملائكة تتأذى مما يتاذى منه بنو آدم؛ كالدخان ونحوه. كما جاءت أحاديث تنص على عدم دخولهم أماكن فيها معصية، فأحرى أن يحرم مثل هذا المجلس من حضور ملائكة الرحمة .
والله أعلم.