عنوان الفتوى : الوسوسة القهرية والابتلاء في حياة المؤمن وهل يمكن دفع ذلك ورفعه بالدعاء ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

السؤال الذي أريد أن ألقيه بين أيديكم يخص موضوع الشيطان ووسوسته ، فوالله عندما تاب الله عليَّ وتبت إليه ووفقني للطاعات ، وصلاة الفجر ، وقيام الليل ، والنجاة من كل الفتن ظاهرة كانت أو باطنة ، وأعطاني الله يقظة قوية مع الشيطان ، بحيث بدأت أعرف كل مداخله ، بدأ هذا الشيطان يأتيني من مدخل خطير ، بحيث بدأ يزحزح لي اليقين ، ويشككني في وجود الله ويقول لي : بأنه ليس هناك جنة أو نار، وأنا أحاول أن أخالفه وأزيد في الطاعة ، بحيث ينتصر عليَّ مرة وأنتصر عليه بإعانة من الله مرة . فسؤالي هو : إن العلماء يقولون : إنه لا يُبتلى الإنسان حتى يُمكَّن ، فهل التمكن يعني التمسك بشرع الله وأن يتوب توبة نصوحاً ؟ وهل هذا الذي أنا فيه ابتلاء ؟ وهل الدعاء يزيح الابتلاء ، أم الابتلاء يظل بيد الله هو الذي يعلم متى يزيحه ؟ وأرجوكم أن تردوا عليَّ في أقرب وقت ، وشكراً .

مدة قراءة الإجابة : 7 دقائق


الحمد لله
أولاً:
ما يصيب المسلم من " وسواس قهري " مما يجعله يشك في وجود الله تعالى ويدفعه للسخرية بشعائر الدين وإنكارها : هو من الابتلاء الذي يمكن أن يزول بالاستعانة بالله تعالى ، والقيام على طاعته ، والإكثار من الأدعية والأذكار ، وكلما أهمله المسلم ولم يلتفت إليه ، ساعد ذلك في التخلص منه بالكلية ، فما يقع من وسوسة قهرية إنما هو من كيد الشيطان ووسوسته ليصرف المسلم عن طاعة ربِّه ويدخله في سلك الضالين .
وليطمئن من أصيب بهذا المرض أنه غير مؤاخذ بما يقع في قلبه من شك أو جحود ، وغير مؤاخذ بما ينطق لسانه من يمين أو طلاق ، وانظر في ذلك جوابي السؤالين ( 110095 ) و ( 12315 ) .
ثانياً :
الابتلاء سنَّة كونية وضرورة إيمانية ، قال تعالى : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُترَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ) العنكبوت/ 2 ، ومن أعظم حكَم الله تعالى في ذلك أن يتبين في الابتلاء من صدق في إيمانه ممن لم يصدق ، قال تعالى ( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمنَّ الكاذِبين ) العنكبوت/ 3 .
قال ابن القيم – رحمه الله - : " الله سبحانه اقتضت حكمتهُ أنه لا بد أن يمتحن النفوسَ ويبتَليها ، فُيظْهِرَ بالامتحان طِّيبَها مِن خبيثها ، ومَنْ يصلُح لموالاته وكراماته ومَنْ لا يصلُح ، وليُمحِّص النفوسَ التى تصلُح له ويُخلِّصها بِكِير الامتحان ، كالذَّهب الذى لا يخلُص ولا يصفو مِن غِشه إلا بالامتحان ، إذ النفسُ فى الأصل جاهلة ظالمة وقد حصل لها بالجهل والظلم مِن الخُبث ما يحتاجُ خروجه إلى السَّبكِ والتصفية ، فإن خرج فى هذه الدار وإلا ففى كِير جهنم ، فإذا هُذِّب العبدُ ونُقِّيَ أُذِنَ له فى دخولِ الجنة " انتهى من " زاد المعاد في هدي خير العباد " ( 3 / 18 ).

ولا يخلو الابتلاء من فوائد للمؤمن الصابر المحتسب ، فهو إما يكون من أجل تطهيره من الذنوب ، أو يكون لرفع درجته في الصابرين ، فهو في كلا الحالين منتفع إذا صبر واحتسب على ما ابتلاه الله تعالى به .
وللاستزادة من معرفة الحكمة من الابتلاءات انظر جواب السؤال رقم ( 35914 ) .

ثالثاً:
وما قلتَه عن العلماء أن المؤمن لا يبتلى إلا بعد التمكن ليس صواباً فيما نعلم ، بل الصواب عكسه وأن الابتلاء أولا ثم يأتي التمكين بعده ، فالابتلاء هو مقدمة التمكين والذي هو العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة ، وقد سئل الإمام الشافعي رحمه الله : أيهما أفضل للرجل أن يُمكَّن أو يُبتلى ؟ فقال : " لا يُمكَّن حتى يُبتلى " ، فالتمكين في الأرض لا يأتي إلا بعد ابتلاء ، فإذا تمكَّن فيها دعا إلى الله وسعى في هداية الناس ، ومما يدل على ما قاله الشافعي رحمه الله قوله تعالى ( وَجَعَلْنَا مِنْهُم أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون ) السجدة/ 24 .
قال ابن القيم - رحمه الله - : " فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ، ثم يصير إلى الألم الدائم .
- ثم ذكر كلام الإمام الشافعي - .
ثم قال :
والله تعالى ابتلى أولي العزم من الرسل فلما صبروا مكنهم ، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة ، وإنما يتفاوت أهل الآلام في العقول ؛ فأعقلهم من باع ألما مستمرا عظيما بألم منقطع يسير ، وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمر " انتهى من " زاد المعاد " ( 3 / 14 ، 15 ) .
رابعاً:
الدعاء من أعظم أسباب دفع البلاء ورفعه ، قال الله عز وجل ( وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) الأنعام/ 42،43 ، وقال سبحانه وتعالى ( وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ) المؤمنون/ 76 .
قال ابن القيم – رحمه الله - : " والدعاء من أنفع الأدوية ، وهو عدو البلاء ، يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل ، وهو سلاح المؤمن " انتهى من " الجواب الكافي " ( ص 4 ) .
وقد انتفع قوم يونس غاية الانتفاع بالدعاء حين رأوا العذاب ، فكان ذلك سبباً في نجاتهم منه ، مع تحقق إيمانهم قبل ذلك .
قال ابن كثير – رحمه الله - : " لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيِّهم ممن سلف من القرى إلا قوم يونس ، وهم أهل " نِينَوى " ، وما كان إيمانهم إلا خوفاً من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم بعد ما عاينوا أسبابه ، وخرج رسولهم من بين أظهرهم ، فعندها جأروا إلى الله واستغاثوا به وتضرعوا لديه واستكانوا وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم ، فعندها رحمهم الله وكشف عنهم العذاب وأُخِّروا كما قال تعالى ( إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) يونس/ 98 " انتهى من " تفسير ابن كثير " ( 4 / 297 ) .

وثمة أمور إذا تأملها من أصيب بمصيبة هانت عليه مصيبته وخفت انظرها في جواب السؤال رقم ( 71236 ) .
وكيف يعرف المصاب إن كانت مصيبته عقوبة أو ابتلاء لرفع درجاته ؟ انظر في ذلك جواب السؤال رقم ( 112905 ) .

نسأل الله أن يعافيك مما يصيبك ، وأن يزيدك إيمانا ويقينا وهدى .

والله أعلم