عنوان الفتوى : ما يتواطأ عليه أهل القبائل من الأعراف والمعاملات في منظار الشرع
عندما تمر قبيلتي بمشاكل ثأر مع قبيلة أخرى وتقوم الحرب بين القبيلتين، يأمرنا شيخ القبيلة أن ندفع فلوسا ونذبح الذبائح على كل فرد من القبيلة بالإجبار والإكراه، وهذه الأموال التي تدفع تذهب إلى شراء الأسلحة والذخيرة وذبح الذبائح. فهل يجوز لي دفع هذه المبالغ ؟ وماذا أفعل إذا قام الشيخ بتهديدي والاعتداء علي إذا لم أدفع ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما يتواطأ عليه أهل القبائل من الأعراف وقواعد المعاملة يجب أن يُفرَّق فيها بين ما يخالف الشرع، وبين ما لا يخالفه، فالأول لا يجوز فعله ولا الرضا به ولا التحاكم إليه، بخلاف الثاني فالحكم فيه تبع للمصلحة.
قال الشوكاني في (الجواب المنير على قاضي بلاد عسير): التواطؤ من أهل القرى على توظيف قواعد تندفع بها عنهم مفاسد وتحصل لهم عندها فوائد ينبغي أولا الاستفسار عن هذه القواعد هل هي مما له انتظام في سلك الأحكام المشروعة للأنام من سيد الأنام عليه الصلاة والسلام وعلى آله الكرام وصحبه الفخام أم لا. فالأول لا ريب أن ذلك من المستحسنات الداخلة تحت عموم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} و: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وغير ذلك من الآيات الكريمة. وفي السنة من دلائل هذا ما لا يأتي عليه الحصر: " الدين النصيحة "، " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " ، " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " ، " المؤمنون كالبنيان " ... وأما إذا كان النصب مشتملا على القيام بأمور مخالفة للشريعة المطهرة فهذا هو الطرف الثاني من طرفي الاستفسار، ونقول: لا مرية في أن ذلك التواطؤ والنصب من أعظم المعاصي الموجبة للهلاك ... اهـ.
والقتال الذي يجري بين القبائل لا يخلو غالبا من ظلم وبغي وتعد، وهذا لا يجوز شرعا، خاصة مع وجود سلطان يمكن رفع الأمر إليه للأخذ على يد الظالم واستخراج الحق منه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه. رواه مسلم.
وما كان كذلك لم تجز المشاركة فيه ولا الإعانة عليه بنفس ولا مال. فإذا قام شيخ قبيلة بجمع المال لأجل شراء السلاح للقتال المحرم، فلا تجوز موافقته في ذلك، بل يجب نصحه بقدر الطاقة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:انصر أخاك ظالما أو مظلوما. فقال رجل: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره. رواه البخاري.
وجاء في (الموسوعة الفقهية): ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم بيع السلاح للبغاة وأهل الفتنة؛ لأن هذا سد لذريعة الإعانة على المعصية، وكذا ما كان في معنى البيع من إجارة أو معاوضة .. وصرح الحنفية بكراهة بيع السلاح لهم كراهة تحريمية؛ لأنه إعانة على معصية، قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}. ولأن الواجب أخذ سلاحهم بما أمكن، حتى لا يستعملوه في الفتنة، فمنع بيعه لهم أولى. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر: كأن المراد بالفتنة ما يقع من الحروب بين المسلمين؛ لأن في بيعه إذ ذاك إعانة لمن اشتراه. وهذا محله إذا اشتبه الحال، فأما إذا تحقق الباغي فالبيع للطائفة التي في جانبها الحق لا بأس به. قال ابن بطال: إنما كره بيع السلاح في الفتنة لأنه من باب التعاون على الإثم .. اهـ.
فإن أصرَّ شيخ القبيلة على جمع المال لشراء السلاح في قتال فتنة أو بغي، وقام بتهديد الممتنع والاعتداء عليه، رفع أمره إلى السلطان لكفه وردعه، فإن لم يمكن ذلك أو لم يكن هناك سلطان، وبقي الخيار بين المشاركة في هذا القتال بالنفس أو المال، وبين تحمل الاعتداء، فليتحمل الظلم الذي يقع عليه خير له من أن يشارك في قتل مسلم، فإن لم يستطع فأرض الله واسعة، فليخرج إن أمكنه الخروج ولينج بنفسه وأهله من هذه الفتنة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه. فقال رجل: يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت. فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار. رواه مسلم. وفي رواية لأحمد: فإن أدركت ذاك فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل.
وقال زكريا الأنصاري في (أسنى المطالب): كل من أظهر حقا ببلدة من بلاد الإسلام ولم يقبل منه ولم يقدر على إظهاره تلزمه الهجرة منها، نقله الأذرعي وغيره عن صاحب المعتمد، ونقله الزركشي عن البغوي أيضا. اهـ.
وقال الشوكاني: إذا لم يقدر فالهجرة محتمة؛ لأن هذا إظهار شعار لمعاص محضة، وإبراز قانون لمنكرات خالصة، وقيام وقعود في محرمات متيقنة .. اهـ.
وأما الأموال التي تجمع للذبائح والضيافة ونحو ذلك، وكذلك للتعاون على أداء الحقوق الواجبة على القبيلة من الديات والغرامات ونحو ذلك، فالأمر فيها أيسر وأقرب، فهذا إذا تراضى عليه أهل القبيلة كان نوعا من التعاون والتكافل المستحسن.
قال الشوكاني: هذا وإن لم يكن في باب من أبواب الشريعة على الخصوص، فهو غير ممنوع شرعا؛ لأن ما كان هذا سبيله فهو مسوغ باعتبار التراضي على التعاون بالأموال ومواساة من نابته نائبة، لكن هذا مع الرضا المحقق في دفع ما يخص الغارم من المغرم اللازم لغيره، وكذلك عدم الاختصاص بالمغنم لمن هو له على الخصوص، فمن دخل في ذلك وأراد الرجوع عن التواطؤ الواقع بينه وبين أهل قريته فهو غير ممنوع من ذلك، لكن بشرط أن لا يكون الأمر الذي خرج عنه مما لا يقوم به إلا الجميع، وذلك مثل ما يلزم من الغرامات في حفظ نفوس الساكنين وأموالهم إما بمصالحة العدو أو بدفع جانب من المال لمن هو أقدر على الدفع منهم أو من غيرهم. وكذلك لوازم الضيافة المشروعة؛ فإن الضيف في غالب القرى لا يقصد فردا معينا بل ينزل المسجد أو النادي ... اهـ.
والله أعلم.