عنوان الفتوى : ترجمة السلطان المغولي " أورنك زيب " وهل كان سلفيَّ العقيدة
بارك الله فيكم ورفع درجاتكم في الدنيا والآخرة . أرجو منكم التكرم بإجابة هذا السؤال : ما حقيقة " أورنك زيب " ( الامبراطور المغولي الذي حكم الهند ) ؟ وهل كان من أتباع منهج أهل السنَّة والجماعة ( السلف ) ؟ أم أنه كان كباقي الأباطرة المغول ؟ .
الحمد لله
السلطان " أورنك زيب " هو أبو المظفر محي الدين محمد " عالَم كير " ، سلطان مملكة
شبه القارة الهندية وما حولها ، وهو أحد أحفاد " تيمور لنك " الطاغية المغولي
المعروف ، ولد في 15 من ذي القعدة عام 1028هـ - يوافق 24 من أكتوبر 1619م - ، وتوفي
في 28 من ذي القعدة عام 1118 هـ - يوافق 20 من فبراير 1707م - .
و " أُورنْك زِيْب " – ويقال " أورنج زيب " - معناها بالفارسية " زينة العرش " ، فـ
" أورنج " معناها : عرش ، و " زيب " معناها : زينة ، وأما " عالَم كير " فمعناها
بالفارسية : فاتح العالم .
وهو ابن السلطان " شاه جيهان" أحد أعظم سلاطين دولة المغول المسلمين فى الهند , وهو
الذي بنى مقبرة " تاج محل " الشهيرة التى تعد من العجائب ، ليدفن فيها زوجته
الشهيرة باسم " ممتاز محل " – والدة السلطان أبي المظفر - والتي فُتن بحبِّها ، ومن
شدة حزنه عليها لم يعد صالحاً للملك ، فتولَّى ابنه السلطان أبو المظفر الملك في
حياته بعد معارك مع إخوته .
لم يكن السلطان " أورنك زيب " كباقي سلاطين المغول ، بل المعروف من سيرته أنه كان
عالِماً عابداً زاهداً تقيّاً شاعراً ، وكان حنفي المذهب في الفروع ، فهو ليس كباقي
سلاطين المغول ، بل هو خير منهم جميعاً .
ومن أفعاله الجليلة : أنه حارب البدع والخرافات ، وترك الاستماع للموسيقى والغناء -
مع أنه كان من الماهرين بهما - وأبطل الاحتفالات الوثنية والبدعية ، كما أبطل عادة
الانحناء وتقبيل الأرض مما كان يُفعل للملوك قبله ، وأمر أن يحييه الناس بتحية
الإسلام " السلام عليكم " ، ولعلَّ هذا ما جعل بعض الكتَّاب من الحاقدين على
الإسلام يصفه بالتعصب ! ومن الممكن أن هذا جعل بعضهم يظنه " سلفيّاً " - وهو في هذه
الأبواب كلها سلفي ولا شك - والواقع أنه – رحمه الله – كان حنفيَّ المذهب ،
والمعروف عن الحنفية في تلك البلاد أنهم ماتريدية في أبواب العقائد ، وقد ذكر كثير
ممن ترجم له أنه كان متصوفاً ، فالله أعلم بحاله واعتقاده ، فليس هناك شيء نعلمه
عنه بيقين ، والمشتهر في ترجمته هو أفعاله وصفاته كتعبّده وزهده وديانته ، فقد ذكر
مترجموه فيها أشياء كثيرة حميدة ، فإذا أضيف إليها محاربته للبدع والخرافات ،
وقضاؤه على الدويلات الرافضية ، ومنعه للاحتفالات البدعية والوثنية تبيَّن أنه ملك
يستحق الاحترام والتقدير والدعاء بخير ، وما فعله – رحمه الله – هو تطبيق عملي
لمنهج السلف في الحُكم وهو ما دعا بعض الأدباء – وهو الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله
– أن يطلق عليه " بقية الخلفاء الراشدين " ، وقد ترجم له ترجمة جليلة في كتابه "
رجال من التاريخ " ( ص 227 – 237 ) ، وقد ختمها بقوله :
ووفِّق إلى أمرين لم يسبقه إليهما أحد من ملوك المسلمين :
الأول: أنّه لم يكن يعطى عالما عطية أو راتبا إلا طالبه بعمل , بتأليف أو بتدريس ,
لئلا يأخذ المال ويتكاسل , فيكون قد جمع بين السيئتين , أخذ المال بلا حق ، وكتمان
العلم .
الثانى: أنّه أول من عمل على تدوين الأحكام الشرعية فى كتاب واحد , يُتخذ قانونا
فوضعت له وبأمره وبإشرافه ونظره "الفتاوى التي نُسبت إليه فسميت " الفتاوى
العالمكيرية " واشتهرت بـ " الفتاوى الهندية " من أشهر كتب الأحكام في الفقه
الإسلامي وأجودها ترتيباً وتصنيفاً .
" رجال من التاريخ " ( ص 236 ) .
ومن أقرب مَن ترجم للسلطان مِن أهل عصره – ووصفه بالتصوف - أبو الفضل محمد خليل بن
علي المرادي – رحمه الله – توفي 1206 هـ - وقد قال في ترجمته :
سلطان الهند في عصرنا ، وأمير المؤمنين وإمامهم ، وركن المسلمين ونظامهم ، المجاهد
في سبيل الله ، العالِم العلامة ، الصوفي العارف بالله ، الملك القائم بنصرة الدين
، الذي أباد الكفار في أرضه ، وقهرهم وهدم كنائسهم ، وأضعف شركهم ، وأيد الإسلام
وأعلى في الهند مناره ، وجعل كلمة الله هي العليا ، وقام بنصرة الدين ، وأخذ الجزية
من كفار الهند ولم يأخذها منهم ملك قبله لقوتهم وكثرتهم ، وفتح الفتوحات العظيمة ،
ولم يزل يغزوهم ، وكلما قصد بلداً سلكها ، إلى أن نقله الله إلى دار كرامته وهو في
الجهاد ، وصرف أوقاته للقيام بمصالح الدين وخدمة رب العالمين من الصيام والقيام
والرياضة التي لا يتيسر بعضها لآحاد الناس فضلاً عنه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
، وكان موزعاً لأوقاته : فوقت للعبادة ، ووقت للتدريس ، ووقت لمصالح العسكر ، ووقت
للشكاة ، ووقت لقراءة الكتب والأخبار الواردة عليه كل يوم وليلة من مملكته ، لا
يخلط شيئاً بشيء .
والحاصل : أنه كان حسنة من حسنات الزمان ، ليس له نظير في نظام سلطنته ولا مُدانِ ،
وقد ألُّفتْ في سلطنته وحسن سيرته الكتب الطويلة بالفارسية غيرها فمن أرادها فليطلع
عليها .
" سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر " ( 4 / 113 ) .
ثم قال – بعد ذلك - :
واشتغل بالمملكة من سنة ثمان وستين وألف ، وأراد الله بأهل الهند خيراً ؛ فإنه رفع
المظالم والمكوس ، وطلع من الأفق الهندي فجره ، وظهر من البرج التيموري بدره ، وفلك
مجده دائر ، ونجم سعده سائر ، وأَسَر غالب ملوك الهند المشهورين ، وصارت بلادهم تحت
طاعته ، وجُبِيَت إليه الأموال ، وأطاعته البلاد والعباد ، ولم يزل في الاجتهاد في
الجهاد ، ولم يرجع إلى مقر ملكه وسلطنته بعد أن خرج منه ، وكلما فتح بلادا ، أشرع
في فتح أخرى ، وعساكره لا يحصون كثرة ، وعظمته وقوته لا يمكن التعبير عنها بعبارة
تؤديها حقها ، والملك لله وحده ، وأقام في الهند دولة العلم وبالغ في تعظيم أهله
حتى قصده الناس من كل البلاد .
والحاصل : أنه ليس له نظير في عصره في ملوك الاسلام في حسن السيرة والخوف من الله
سبحانه والجد في العبادة .
وأمر علماء بلاده الحنفية أن يجمعوا باسمه فتاوى تجمع جل مذهبهم مما يحتاج إليه من
الأحكام الشرعية فجمعت في مجلدات وسماها بـ " الفتاوى العالمكيرية " واشتهرت في
الأقطار الحجازية والمصرية والشامية والرومية ، وعمَّ النفع بها وصارت مرجعاً
للمفتين ، ولم يزل على ذلك حتى توفي بالركن في شهر ذي القعدة الحرام سنة ثماني عشرة
ومائة وألف ، ونقل إلى تربة آبائه وأجداده ، وأقام في الملك خمسين سنة رحمه الله
تعالى .
" سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر " ( 4 / 113 ) .
وللتوسع في ترجمته – أيضاً - : يُنظر ما كتبه الأستاذ عبد المنعم النمر في كتابه "
تاريخ الإسلام في الهند " ( ص 286 – 288 ) .
والله أعلم
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |