عنوان الفتوى : مسألة حلق اللحية أو تقصيرها لمصلحة الدعوة
هل يجوز الأخذ من اللحية وتقصيرها لأجل الدعوة؟ لأن بعض الناس عندما تتكلم معهم وأنت ذو لحية طويلة يحسون أنك من كوكب آخر أو ينسبونك إلى جهة معينة أو تيار معين فلا يأخذون منك الكلام ولا يستقبلونه ابتداء، بينما إذا خففتها فسوف تدخل في أوساطهم على أنك شخص عادي ومنهم وفيهم، وتتكلم بحرية في أثناء تدريسك في الجامعة مثلا أو مجال العمل وغيرها، وقد قرأت بهذا الصدد كلاما لشيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء، ونصه: ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع، الذي كمل ظهوره في زمن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ما شرعه الله من مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدي، وسبب ذلك: أن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع بذلك، ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه، أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق لنا التنبيه على أن حلق اللحية ليس من مصلحة الدعوة إلى الله، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 20397، ورقم: 26597.
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن رجل حلق لحيته لظروف سياسية، وقال: لا أستطيع أن أنطلق كداعية في هذا المكان والزمان إلا بحلق اللحية، فهل يعذر في ذلك؟ فأجاب ـ رحمه الله: لا يجوز للمسلم أن يحلق لحيته لأسباب سياسية، أو ليمكن من الدعوة، بل الواجب عليه إعفاؤها وتوفيرها امتثالا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من الأحاديث، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: قصوا الشوارب، وأعفوا اللحى، خالفوا المشركين ـ متفق على صحته، فإذا لم يتمكن من الدعوة إلا بحلقها انتقل إلى بلاد أخرى يتمكن من الدعوة فيها بغير حلق، إذا كان لديه علم وبصيرة، عملا بالأدلة الشرعية في ذلك، مثل قوله سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ الآية، وقوله سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي. اهـ.
وهذا واضح إذا أمكن العمل في الدعوة ونشر الدين مع توفير اللحية في أي مكان كان، وأما إذا أوصد باب الدعوة تماما في وجه من أعفى لحيته، فحلقها حينئذ لتحصيل هذه المصلحة محل نظر واجتهاد، إذا كانت المصلحة المرجوة من وراء انطلاق هذا الشخص بعينه في سبيل الدعوة كبيرة وغالبة، اعتبارا بميزان المصالح والمفاسد، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 162763.
ويحسن هنا أن ننبه على بعض الأمور:
ـ الأول: أن مجرد التوهم ليس له مدخل في تقدير المصالح وموازنتها بالمفاسد، ثم إن هذا التقدير إنما يُرجع فيه للراسخين من أهل العلم والصلاح.
ـ والثاني: أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ محمله على التشبه بالكفار في ديارهم مراعاة لحال الضرورة، ولذلك جاء في بقية كلامه بعد الذي نقله السائل قوله: فأما في دار الإسلام والهجرة، التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية، ففيها شرعت المخالفة. اهـ.
وقد عقد الدكتور ناصر العقل ـ أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ في تحقيقه ودراسته لكتاب شيخ الإسلام: اقتضاء الصراط المستقيم ـ والذي كان موضوع رسالته العلمية لنيل درجة الدكتوراه، عقد فيها فصلا لدراسة بعض موضوعات الكتاب، فكان منها مسألة: متى يباح التشبه بغير المسلمين؟ فقال: بما أن الشريعة الإسلامية جاءت بما فيه صلاح الناس وإصلاحهم وتميزت باليسر والسماحة، وتقدير المصالح، ودفع المضار، فإن فيها للضرورات أحكامًا، تخرج المسلم من الحرج حينما يقع فيه، فإن المؤلف أشار إلى أمر مهم فيما يتعلق بمسألة النهي عن التشبه بالكفار والأعاجم ونحوهم، فهو بعد أن أصّل القاعدة، ذكر أن لها استثناءً، فهو يذكر أن المسلم إذا واجهته حالة يضطر معها إلى التشبه بالكفار، فإنه يجوز له ذلك في حدود الضرورة، ويضرب لذلك مثلًا فيقول: ومثل ذلك اليوم، لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأمورًا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر... ثم يشير إلى أنه في دار الإسلام لا يجوز شيء من ذلك لأنها شرعت فيها المخالفة، وعليه فبهذه الشروط والمحترزات والمصالح التي ذكرها المؤلف، يمكن للمسلم أن يتشبه بغير المسلمين، لتحقيق مصلحة كبرى، أو دفع مضرة عظمى، وأضيف إلى ذلك: أن لا يصاحب فعله هذا: استحلال محرم، أو ترك واجب، أو إخلال بعقيدة. اهـ.
ـ والثالث: أن الأخذ من اللحية وتقصيرها يختلف في الحكم عن حلقها بالكلية، وما سبق ذكره إنما هو في الحلق، وأما تقصيرها والأخذ منها، فقد سبق لنا بيان أقوال العلماء فيه، كما في الفتويين التاليتين: 14055 // 71215.
ـ والرابع: أن المسلم يجب أن يعتز بدينه وشعائره وتشريعاته، وليحذر من الانهزامية النفسية التي تحدث لكثير من المسلمين في هذا الزمان جراء الحملة الشعواء التي يشنها أعداء الإسلام والمرجفون من أذنابهم على كل ما هو إسلامي، ليشككوهم في دينهم ويزعزعوا قناعتهم به، فينالوا منهم ما أرادوا بأسهل طريق.
والله أعلم.