عنوان الفتوى : تفسير اختلاف رسوم المصاحف العثمانية
فهمت من دراسة للدكتور غانم القدوري أن ما نعرفه نحن اليوم عن رسم المصحف إنما أخذناه أساسا من كتاب الإمام الداني وتلميذه ابن نجاح من القرن الخامس، وأنّ نقلهما لرسم المصحف غير قائم على النقل عن المصحف الإمام أو المصاحف التي أرسلها عثمان ـ رضي الله عنه ـ إلى الأمصار، ولا عن طريق الرواية عن الصحابة أو التابعين، وإنما هو قائم على منهج استقرائي لرسم المصحف في المخطوطات التي وقعوا عليها لمصاحف الأمصار في زمانهما، فما مدى صواب هذا القول؟ وكيف نفسر وجود مخالفات كثيرة في الرسم لمصاحف تنسب علميا إلى القرن الأول والثاني ـ كما أشار إلى ذلك د. غانم ود. طيار قولاج التركي وغيرهما ـ لرسم المصحف أساسا إسقاط الألف أو كتابة على علا، وإن كان كل ذلك لا يمس أصالة النص المقروء في شيء؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذي نعرفه من كلام الأستاذ الدكتور غانم قدوري ـ وهو أحد أبرز العلماء المتخصصين في القرآن وعلومه ـ أن الأمهات من مصاحف الأمصار ظلت مصدرا لدراسة الرسم العثماني، وأن المصاحف المنسوخة من الأمهات قامت مقام الأصول، لأنها نسخة منقولة عنها، وقد عقد الدكتور غانم في كتابه رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية فصلا عن الرسم العثماني: مصادره وموقف علماء السلف من مظاهره فكان المبحث الأول منه بعنوان: مصادر الرسم العثماني، ومما قال فيه: ما إن وصلت المصاحف التي كتبت في المدينة في خلافة عثمان ـ رضي الله عنه ـ إلى الأمصار الإسلامية حتى سارع المسلمون إلى نسخ المصاحف منها، حرفا بحرف وكلمة بكلمة، وإقامة مصاحفهم بعرضها عليها، وكما اشتهر أئمة بالإقراء في الإمصار، كذلك وجَّه هؤلاء الأئمة عنايتهم إلى ضبط رسم المصاحف وإقامتها على نحو ما جاء في المصحف الإمام الذي وجِّه إليهم، وهكذا قامت المصاحف المنسوخة من الأمهات مقام الأصول، لأنها نسخة منقولة عنها، فروى الأئمة عن المصاحف العثمانية ـ أصولا وفروعا ـ طريقة رسم الكلمات، وما إن وصلت تلك الرواية إلى عصر انتشار تدوين العلوم حتى سارع العلماء في وقت مبكر إلى تسجيل تلك الروايات في كتب كانت أساسا لحفظ صور الكلمات في المصاحف ومرجعا ـ إلى جانب المصاحف المنسوخة ـ لمن أراد أن ينسخ مصحفا، وقد توفرت روايات رسوم مصاحف الأمصار لدى العلماء في وقت مبكر، فظهر التأليف في اختلاف رسوم مصاحف أهل الأمصار وينسب إلى كل من ابن عامر والكسائي والفراء وخلف كتاب في ذلك، وقد ظلت المصاحف ـ إلى جانب روايات الأئمة ـ مصدرا لدراسة الرسم العثماني، فكان المؤلفون يروون الروايات المتقدمة، ثم إنهم كثيرا ما يعقبون على ذلك بقولهم: إنهم رأوا ذلك كذلك في مصاحف بلدهم، أو ربما صححوا بعض الراويات على ضوء ما يجدونه في المصاحف التي عندهم، وبناء على ذلك سنعتمد في دراستنا للرسم العثماني في هذا البحث على ما روته المصادر المؤلفة في ذلك أولا مما وصل إلينا منها، وعلى المصاحف القديمة المخطوطة التي أمكن الاطلاع عليها المحفوظة في بعض مكتبات التراث الإسلامي ثانيا اهـ. ص: 163ـ 164ـ 167.
وكذلك قد بحث الدكتور غانم مسألة مصير المصاحف العثمانية الأصلية، وهل من المحتمل أن يكون قد بقي منها شيء وقال: هي مسألة تاريخية كبيرة، ليس من اليسير هنا الإلمام بكل جوانبها، ونكتفي بالإشارة إلى أن العلماء قد رووا في وقت مبكر ذهاب تلك المصاحف، ولا شك أن من روى ذلك كانت روايته بقدر ما عرفه، ولا ينفي أن تكون المصاحف العثمانية قد بقيت لعدة قرون بعد ذلك، فبينما نجد الإمام مالك بن أنس ت: 179هـ يسأله ابن وهب عن مصحف عثمان ـ رضي الله عنه ـ فيقول: بأنه ذهب، نجده يخرج لهم مصحفا قديما كان قد كتبه جده إذ كتب عثمان المصاحف، ويُروى أن أبا عبيد قال: إنه رأى الإمام مصحف عثمان، استخرج له من بعض خزائن الأمراء، وأنه رأى فيه أثر دمه، ويشير الداني ـ ت: 444هـ كثيرا إلى تتبعه بعض الحروف في المصاحف العتق، فيقول مثلا إنه رأى مصحفا جامعا عتيقا كتب في أول خلافة هشام بن عبد الملك سنة عشر ومائة كان تاريخه في آخره، كذلك يَروي ابن كثير ـ ت: 774هـ، وابن الجزري ـ ت: 833هـ أنهما رأيا بعض المصاحف القديمة المكتوبة على الرق في جامع دمشق وفي مصر كذلك، فهذه الروايات تشير إلى احتمال أن تكون المصاحف العثمانية الأصلية قد ظلت موجودة دهرا طويلا في المساجد الجامعة، خاصة إذا تصورنا ما حظيت به تلك المصاحف من الرعاية والاحترام، فهي المصاحف الأئمة التي نسخ الناس عنها مصاحفهم في الأمصار بعد إجماع الأمة على المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان ـ رضي الله عنه ـ ومن الملاحظ أن أئمة رواية الرسم كثيرا ما يقولون إنهم رأوا كلمة معينة في المصحف الإمام مصحف عثمان، كالذي يروى عن أبي عبيد وعاصم الجحدري ويحيى بن الحارث وأبي حاتم، ولعل كلمة المصحف الإمام كانت تشمل جميع المصاحف التي كتبت بأمر عثمان ـ رضي الله عنه ـ في أي مصر من الأمصار، وليس مصحف المدينة أو المصحف الخاص بالخليفة فحسب، وربما تشمل أيضا المصاحف الكبيرة التي كانت توضع في المساجد الجامعة للقراءة أو لنسخ المصاحف منها والتي نسخت من المصاحف العثمانية الأصلية، ولعل ذلك يفسر لنا أيضا ما يكتب في آخر بعض المصاحف من أنه بخط الخليفة عثمان، أي بنفس الهجاء الذي كتبت عليه المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان ـ رضي الله عنه ـ وتوجد الآن في مكتبات العالم مجموعة كبيرة من المصاحف القديمة، أو قطع منها قد كتبت على الرق وبالخط الكوفي القديم مجردة من النقط والشكل، ومن كثير مما ألحق بالمصاحف من أسماء السور وعدد آيها وغير ذلك، بحيث تبدو أقرب إلى الصورة التي كانت عليها المصاحف الأولى، ويثار السؤال القديم مرة أخرى في الوقت الحاضر، وهو: هل يمكن أن يكون واحد من هذه المصاحف القديمة الباقية أحد المصاحف العثمانية الأصلية؟ إن أغلب الباحثين أَمْيَل إلى استبعاد ذلك، إذ من المتعذر اليوم العثور على مصحف كامل كتب في القرن الهجري الأول أو الثاني وعليه تاريخ نسخه أو اسم ناسخه، وكذلك فإنها في الغالب غير مجردة تماما من العلامات التي أدخلت في وقت متأخر، إلى جانب أن إقرار ذلك يحتاج إلى أدلة تاريخية ومادية واضحة وقوية، ودراسة متعددة الوجود، وهو ما لم يتح للدارسين بعد القيام بها، ومهما كان الرأي في تلك المصاحف فإنها دون شك قديمة ترجع إلى القرون الهجرية الأولى، بل ربما إلى القرن الأول بالذات، خاصة حين لا يظهر فيها أي أثر للإصلاحات التي أدخلت على الخط العربي في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، إلا بعض العلامات النادرة أحيانا، فهي بذلك أقرب إلى الفترة التي يحتمل أن تكون المصاحف العثمانية موجودة فيها، وربما نسخت منها أو من مصحف نسخ من أحدها، وهي لذلك خير ما يمثل واقع الرسم الذي نسخت به المصاحف العثمانية، وتملك مكتبات التراث الإسلامية في مصر خير مجموعة من تلك المصاحف القديمة. اهـ ص: 188ـ 191.
وبهذا يتبين أن الدكتور غانم يستبعد أن يكون واحد من المصاحف القديمة الباقية أحد المصاحف العثمانية الأصلية، ولكنه يرى من دون شك أن هذه المصاحف قديمة وترجع إلى القرون الهجرية الأولى، بل ربما إلى القرن الأول بالذات.
وأما السؤال عن تفسير وجود خلافات في رسم مصاحف تنسب علميا إلى القرن الأول والثاني؟ فنؤكد أولا على ما ذكره الأخ السائل من أن ذلك لا يمس أصالة النص المقروء، قال الدكتور عوض الشهري في بحثه المصحف العثماني: إن عدم بقاء المصاحف العثمانية قاطبة لا يضرنا شيئاً ما دام المعول عليه هو النقل والتلقي ثقة عن ثقة وإماماً عن إمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك متواتر مستفيض على أكمل وجه في القرآن حتى الآن. اهـ.
وأما جواب ذلك فيتضح من كلام الشيخ عبد الله بن يوسف العنزي في كتاب المقدمات الأساسية في علوم القرآن حيث قال: المصاحف العثمانيّة قد اختلفت في رسمها في شيء قليل، وكلّه كلام الله تعالى، كقوله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ { الحديد: 24} هكذا في مصاحف مكّة والبصرة والكوفة، وبه قرأ جميع السّبعة غير نافع وابن عامر فهذان قرءا على ما في مصاحف المدينة والشّام، وذلك بغير هُوَ، وكقوله: وَلا يَخافُ عُقْباها { الشّمس: 15} و فلا يخاف عقباها، قال الإمام أبو عبيد: هذه الحروف الّتي اختلفت في مصاحف الأمصار كلّها منسوخة من الإمام الّذي كتبه عثمان ـ رضي الله عنه ـ ثمّ بعث إلى كلّ أفق ممّا نسخ بمصحف، ومع هذا، إنّها لم تختلف في كلمة تامّة ولا في شطرها إنّما كان اختلافها في الحرف الواحد من حروف المعجم، كالواو والفاء والألف وما أشبه ذلك، إلّا الحرف الّذي في الحديد وحده، قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ـ فإنّ أهل العراق زادوا على ذينك المصرين ـ يعني المدينة والشّام ـ هوـ فليس لأحد إنكار شيء منها ولا جحده، وهي كلّها عندنا كلام الله، وجائز أن يكون الوجه في اختلاف الرّسم لهذه الحروف هو: أنّه حين كتبت أصولها جميعا بإشراف أمير المؤمنين عثمان، من قبل أمناء الوحي زيد بن ثابت وإخوانه، رأوا إمكان تضمين تلك المصاحف بعض الحروف المسموعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ممّا تعذر عليهم رسمه جميعا في مصحف واحد، ففرّقت فيها لتبقى محفوظة على الأمّة، كبعض صور اختلاف الأحرف السّبعة الّتي نزل عليها القرآن. اهـ.
وقال الشيخ محمد طاهر الكردي في كتاب تاريخ القرآن الكريم تحت عنوان: سبب اختلاف رسوم المصاحف العثمانية: لا ندري لم اختلفت رسوم تلك المصاحف التي كتبت بأمر عثمان ـ رضي الله عنه ـ وأرسلت إلى المدن والأمصار، وقد أجاب على هذا العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي وكيل الجامع الأزهر والمعاهد الدينية بمصر المتوفى عام 1351 تقريبا ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه: عنوان البيان في علوم التبيان ـ بقوله: إن هذا الاختلاف بين تلك المصاحف إنما هو اختلاف قراءات في لغة واحدة، لا اختلاف لغات، قصد بإثباته إنفاذ ما وقع الإجماع عليه إلى أقطار بلاد المسلمين واشتهاره بينهم وإنما كتبت هذه في البعض بصورة وفي آخر بأخرى، لأنها لو كررت في كل مصحف لتوهم نزولها كذلك، ولو كتبت بصورة في الأصل وبأخرى في الحاشية لكان تحكما مع إيهام التصحيح، ومثل هذا بعد أمر عثمان ـ رضي الله عنه ـ وبعثه إلى كل جهة ما أجمع الصحابة على الأخذ به لا يؤدي إلى تنازع أو فتنة، لأن أهل كل جهة قد استندوا إلى أصل مجمع عليه، وإمام يرشدهم إلى كيفية قراءته، والحاصل أن المصاحف العثمانية كتبت بحرف واحد وهو حرف قريش، وأن ذلك الحرف يسع من القراءات ما يرسم بصور مختلفة إثباتا وحذفا وإبدالا، فكتب في بعضها برواية وفي بعضها برواية أخرى، تقليلا للاختلاف في الجهة الواحدة بقدر الإمكان، فكما اقتصر على لغة واحدة في جميع المصاحف، اقتصر على رسم رواية واحدة في كل مصحف، والمدار في القراءة على عدم الخروج عن رسم تلك المصاحف، ولذلك لا يحظر على أهل أي جهة أن يقرءوا بما يقتضيه رسم الجهة الأخرى. اهـ كلامه رحمه الله تعالى.
وهو كلام حسن وجواب سديد.
والله أعلم.