عنوان الفتوى : هل يؤثر على صحة العبادة إرادة بعض المصالح والمنافع
لديه إشكال في فهم النية والشرك الأصغر والرياء ومفهوم العادة والعبادة، ولديه بعض الأسئلة: هل تقديم الهدية عادة أم عبادة؟ وهل يدخل فيها الرياء؟ وهل المعاملة في الكلام بالطيبة من تبسم وغيره لكي يحبني الناس ويمدحونني تتعبر رياء؟ وهل السواك من أمور العادة أم العبادة؟ وهل لو أراد به تنظيف الأسنان فقط يعتبر يبتغي أمرا من أمور الدنيا؟ وهل لو وصلت الرحم من باب العادة ولم يخطر في بالي العبادة أو التقرب وإنما لكي أتحدث وأضحك فقط فيها شيء؟ وهل لو زرتهم لأجل أخذ مال من أقاربي يعتبر من العبادة أم لوجه الدنيا ووقعت في الشرك؟ لو فعلت لإنسان عمل خير وطلبت منه الدعاء عليه فيه شيء؟ وبماذا تنصحونني من الكتب التي تنفعني في هذه الإشكالات؟ وشكــــرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد عقد الإمام القرافي في الفروق فصلا مهما للتفريق بين قاعدة الرياء في العبادات وبين قاعدة التشريك في العبادات، وقال: تحقيق هذه القاعدة وسرها وضابطها أن يعمل العمل المأمور به والمتقرب به إلى الله تعالى ويقصد به وجه الله تعالى وأن يعظمه الناس أو يعظم في قلوبهم فيصل إليه نفعهم أو يندفع عنه ضررهم، فهذه قاعدة الرياء المبطلة للأعمال المحرمة بالإجماع، وأما مطلق التشريك كمن جاهد ليحصل طاعة الله بالجهاد وليحصل المال من الغنيمة فهذا لا يضره ولا يحرم عليه بالإجماع، لأن الله تعالى جعل له هذا في هذه العبادة، ففرق بين جهاده ليقول الناس: إنه شجاع، أو ليعظمه الإمام فيكثر إعطاءه من بيت المال، فهذا ونحوه رياء حرام، وبين أن يجاهد ليحصل السبايا والكراع والسلاح من جهة أموال العدو، فهذا لا يضره مع أنه قد أشرك، ولا يقال لهذا رياء بسبب أن الرياء أن يعمل ليراه غير الله تعالى من خلقه، والرؤية لا تصح إلا من الخلق، فمن لا يرى ولا يبصر لا يقال في العمل بالنسبة إليه: رياء، والمال المأخوذ في الغنيمة ونحوه لا يقال: إنه يرى أو يبصر، فلا يصدق على هذه الأغراض لفظ الرياء لعدم الرؤية فيها، وكذلك من حج وشرك في حجه غرض المتجر بأن يكون جل مقصوده أو كله السفر للتجارة خاصة، ويكون الحج إما مقصودا مع ذلك أو غير مقصود ويقع تابعا اتفاقا، فهذا أيضا لا يقدح في صحة الحج ولا يوجب إثما ولا معصية، وكذلك من صام ليصح جسده أو ليحصل له زوال مرض من الأمراض التي ينافيها الصيام ويكون التداوي هو مقصوده أو بعض مقصوده والصوم مقصوده مع ذلك وأوقع الصوم مع هذه المقاصد لا تقدح هذه المقاصد في صومه، بل أمر بها صاحب الشرع في قوله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء، أي قاطع، فأمر بالصوم لهذا الغرض، فلو كان ذلك قادحا لم يأمر به عليه الصلاة والسلام في العبادات وما معها، ومن ذلك أن يجدد وضوءه وينوي التبرد أو التنظيف، وجميع هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق، بل هي تشريك أمور من المصالح ليس لها إدراك ولا تصلح للإدراك ولا للتعظيم، فلا تقدح في العبادات، نعم لا يمنع أن هذه الأغراض المخالطة للعبادة قد تنقص الأجر وأن العبادة إذا تجردت عنها زاد الأجر وعظم الثواب أما الإثم والبطلان فلا سبيل إليه، ومن جهته حصل الفرق لا من جهة كثرة الثواب وقلته. اهـ.
وبهذا يتبين أن إرادة المصالح والمنافع التي أرشد إليها الشارع الحكيم من وراء العبادات، لا يأثم صاحبها ولا تبطل عبادته، بل إنه مثاب بقدر ما معه من النية والحسبة، وإذا تبين هذا تبين أن إرادة وجوه الناس والتقرب منهم ونيل محبتهم بالهدية ليس من الرياء، فإن هذا من المصالح التي أرشد إليها الشارع الحكيم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تهادوا تحابوا. رواه البخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني.
وكذلك من المصالح الشرعية التي رغب الشارع في السواك لأجلها: تنظيف الفم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب. رواه البخاري تعلقيا والنسائي وأحمد.
وقريب مما سبق: طيب الكلام والتبسم وحسن المعاشرة وصلة الرحم، فمن فعل شيئا من ذلك بغير نية أو بنية دنيوية، فليس مرائيا وليس عليه إثم، وإن فاته الأجر، قال الشيخ علي الخضير في شرح كتاب التوحيد: الرياء خاص بالأعمال الصالحة، ولذا لو عمل الأعمال الدنيوية ليمدحه الناس فهذا ليس من الرياء، مثال ذلك: لو حسن بيته أو مركبه ليمدحه الناس، ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد من حديث شداد بن أوس أنه قال: من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق ـ فذكر الأعمال الصالحة فقط. اهـ.
وذكر الشيخ وليد السعدان في رسالته في تحقيق قواعد النية، تحت قاعدة: العادات تنقلب عبادات بالنيات الصالحات ـ فروعا توضح معناها، منها: اجتماع الأقارب السنوي، أو اجتماعهم الشهري، أو اجتماعهم في الأفراح والولائم الصغيرة بالأسباب العارضة، هو عادة من جملة العادات. اهـ.
ومما يمكن أن يقرَّب به الفرق بين العادة والعبادة من حيث المنشأ، أن العادة متعلقة بمنافع الدنيا وأمر المعاش، والأصل فيها الإباحة، فمن حظرها أو أدخلها في باب العبادة يطالب بالدليل، وأما العبادة فمتعلقة بمنافع الآخرة وأمر المعاد، والأصل فيها الحظر، فمن شرعها يطالب بالدليل، ويمكن أن يقرب ذلك أيضا بما ذكره القرافي في الفروق في الفرق بين قاعدة حقوق الله تعالى وقاعدة حقوق الآدميين، حيث قال: حق الله أمره ونهيه، وحق العبد مصالحه، والتكاليف على ثلاثة أقسام: حق الله تعالى فقط كالإيمان وتحريم الكفر، وحق العباد فقط كالديون والأثمان، وقسم اختلف فيه هل يغلب فيه حق الله أو حق العبد كحد القذف، ونعني بحق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط، وإلا فما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه، فيوجد حق الله تعالى دون حق العبد، ولا يوجد حق العبد إلا وفيه حق الله تعالى، وإنما يعرف ذلك بصحة الإسقاط، فكل ما للعبد إسقاطه فهو الذي نعني به حق العبد، وكل ما ليس له إسقاطه فهو الذي نعني بأنه حق الله تعالى. اهـ.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 53441.
وأما مسألة طلب الدعاء فراجع فيها الفتويين رقم: 18397، ورقم: 142189.
والله أعلم.