عنوان الفتوى : حكم إشراك نية العبادة بأمر دنيوي

مدة قراءة السؤال : 3 دقائق

في البداية كل عام وأنتم بخير و تقبل الله طاعاتكم . سؤالي في الحقيقة هو عن عبادة الله سبحانه و تعالى والشرك بالله في العبادات: سمعت وقرأت أن في ديننا العظيم - و هو من المعروف من الدين بالضرورة - أن عبادة الله لا يجوز فيها أن يشرك المرء مع الله أحداً، و قرأت فتاوى لكم بخصوص الإشراك في النية، و حسب ما فهمت أن الإشراك في النية إن كان مع النافلة فلا بأس، لكن بالفريضة لا يجوز، فمثلا رجل مصاب بالسكري لا يجوز له أن يصوم رمضان لتقليل نسبة السكر بالدم ولكن يجب أن يصوم لله، و لأنه أمرنا بالصيام ، أما إن أراد أن يصوم نافلة فيجوز أن يصوم نية تحصيل الأجر، و نية مثلا تقليل السكر في الدم أو أي غرض آخر بغض النظر ما هو .(ألا يعارض هذا إخلاص العمل لله وحده؟) لكن حصل لدي لبس واختلطت علي الأمور، فهناك كثير من الأمور نفعلها في حياتنا وهي عبادة يؤجر عليها الشخص و نشرك مع الله فيها أحداً دون قصد منا أن نشرك أحداً بالعبادة مع الله، فعلى سبيل المثال إحسان الرجل لوالديه، هو أمر إلهي و يتعبد الإنسان إلى الله ببر والديه، لكنه قد يفعل ذلك براً بوالديه وحباً لهما، فهنا نيته تحصيل الأجر ولأجل المحبة. فهل هذا يعتبر شركا؟ و كذلك مثلا الرجل يضع لقمة الطعام في فم زوجته، وإن كان هذا صدقة كما أخبرنا عليه الصلاة والسلام، لكن لا يكون نية الرجل فيها "طلب الأجر من الله فقط" بل يكون أيضاً لحبه لزوجته. فهل هذا الأمر فيه شرك مع الله في النية أو العمل الصالح ؟ وإن لم يكن هناك شرك في هذا الشيء مثلا، فما هو الضابط الذي يحكم العمل من ناحية هل فيه شرك أم لا ، فإذا قلتم تعدد المقاصد ففي الحالتين التي ذكرت يكون هناك مقصد آخر يريد تحقيقه الإنسان غير مقصد عبادة الله . ومن الأمثلة على حالات أخرى مشابهة، فمثلا رجل يصلي لحبه للصلاة و طاعة الله ، ولأنه يعيش بمجتمع إسلامي وهو لا يستطيع أن يخرج عن نطاق هذا المجتمع ودينه وعاداته وتقاليده، أو مثلا يصلي لكنه يصلي تعبداً لله ولأنه قد اعتاد منذ صغره على الصلاة وأصبحت أمرا روتينيا يفعله كباقي الأمور من أكل وشرب وعمل. أرجو منكم التوضيح وجزاكم الله خيراً.

مدة قراءة الإجابة : 7 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الذي ينبغي للمسلم فعله هو قصد القربة لله تعالى عند الدخول في العبادة سواء كانت صوما أو صلاة أو غيرهما، وقد اختلف العلماء فيمن تقرب بقربة ينوي العبادة وأمراً آخر مباحاً هل يجزيه عن العبادة أو لا، على قولين:  فأكثر العلماء على جواز ذلك ،لأن الغرض المباح لا يُنافي العبادة، وذهب جماعة منهم إلى بطلان العبادة بهذا التشريك، وهذا يدخل فيه من صام بقصد التعبد لله تعالى والتداوي بالصوم ، ومن توضأ لرفع الحدث والطهارة والتبرد به أيضا. وانظر الفتوى رقم :119732، والفتوى رقم :52845، ولا بأس أن نذكر لك بعض الأمثلة على التشريك الذي لا يفسد العبادة.

ففي شرح زاد المستنقنع في الفقه الحنبلي: لا شك أن الذي ينهزه إلى الصيام الرغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى أكمل وأفضل، لكن الذي نصح بالحمية كمن نصحه الطبيب بأن لا يكثر الأكل فقال، نحتمي وأصوم فأحصل الأجر وأحصل الصحة، نقول هذا تشريك في العبادة لكنه تشريك بمباح فهو جائز . ..فالشخص الذي أمر بكثرة المشي فقال بدلاً من أن أجوب الأسواق طولاً وعرضاً أطوف أحصل على ما أريد وأحصل على أجر الطواف، نقول يؤجر على طوافه لأنه ما عدل من هذا إلى ذاك إلا طلباً للثواب، وما عدل عن الحمية وترك الطعام والشراب من غير صيام إلى الصيام إلا قاصداً بذلك وجه الله سبحانه وتعالى نعم أجره أقل.انتهى بحذف قليل.

أما مسالة الإحسان إلى الوالدين بنية التعبد لله تعالى والبربهما ومحبتهما، فالظاهر أنها ليست من هذا الباب لأن البر والإحسان إليهما ومحبتهما كل ذلك من طاعة الله تعالى وعبادته، وبالتالي فليس في العبادة تشريك، أما إطعام الزوجة والقيام بحقوقها فهو من الواجبات التي يشترط  لحصول الأجر الزائد على أجر الواجب إلى نية القربة، ولذلك قال العلماء أن من أنفق على زوجته ذاهلا عن نية القربة لم يحصل له غيرأجر أداء الواجب،  ووجود المحبة لا يؤثر على صحة نية القربة إذا وجدت، ففي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاصٍ، وفيه: وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح : وأنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله الا أجرت بها مقيدة بابتغاء وجه الله، وعلق حصول الأجر بذلك وهو المعتبر ويستفاد منه أن أجر الواجب يزداد بالنية لأن الإنفاق على الزوجة واجب وفي فعله الأجر، فإذا نوى به ابتغاء وجه الله ازداد أجره بذلك. قاله ابن أبي جمرة قال ونبه بالنفقة على غيرها من وجوه البر والإحسان. انتهى.

أما من يصلي لله تعالى في خلوته وبحضور الناس فلا يؤثر على صحة نيته كونه يشعر بأنه من مجتمع إسلامي ولا يستطيع الخروج عن دينه، فإن كان يصلي لأنه لا يستطيع مخالفة مجتمعه المسلم فيصلي معهم ولو كان وحده لم يصل فهذه حالة المنافقين والعياذ بالله تعالى.  

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وَكَذَلِكَ مَنْ دَاوَمَ عَلَى الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهُ لَا يُصَلِّي إلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا فَإِنَّمَا يُصَلِّي حَيَاءً أَوْ رِيَاءً أَوْ لِعِلَّةِ دُنْيَوِيَّةٍ ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ : { إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ ..وقَدْ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ وَلَا يَدْرِي بِهِ أَحَدٌ فَإِذَا حَافَظَ عَلَيْهِ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِ إلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مُؤْمِنًا.انتهى.

وكذلك من كان باعثه إلى الصلاة كونها فريضة عليه يصليها لله تعالى وليس له باعث آخر ، فلا يؤثر على نيته كونه يصلي من صغره حتى تعود على الصلاة لأن هذا أمر واقع، وهو نعمة من نعم الله تعالى، ولكن ليكن على حذر من أن يجعل الصلاة مجرد حركات يعملها دون الخشوع والتعظيم لله تعالى واستحضارالقلب فيها، فالخشوع هو لُبُّ الصلاة وروحها، وليس للإنسان من صلاته إلا ما عَقِلَ منها، وإن امتزج بالباعث إلى الصلاة أوغيرها من العبادات أمر آخر أثر ذلك على الإخلاص وقل الأجر بحسب درجة ذلك الباعث، لذلك فإن على المسلم أن يخلص لله تعالى في عبادته ويفرد نية التقرب إليه فلا يشرك معها شيئا ولو كان من الأمور التي لا تفسد العبادة ولا تعتبر شركا.

 وفي مختصر منهاج القاصدين: نتكلم الآن فيمن انبعث لقصد التقرب، ولكن امتزج بهذا الباعث باعث آخر، إما من الرياء، أو من غيره من حظوظ النفس. ومثال ذلك، أن يصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب، أو يعتق عبدًا ليتخلص من مؤونته وسوء خلقه، أو يحج ليصح مزاجه بحركة السفر، أو للتخلص من شر يعرض له، أو يغزو ليمارس الحرب ويتعلم أسبابها، أو يصلى بالليل وله غرض في دفع النعاس عن نفسه ليراقب رحله أو أهله، أو يتعلم العلم ليسهل عليه طلب ما يكفيه من المال، أو يشتغل بالتدريس ليفرح بلذة الكلام، ونحو ذلك، فمتى كان باعثه التقرب إلى الله تعالى ولكن انضاف إليه خاطر من هذه الخواطر حتى صار العمل أخف عليه بسبب من هذه الأمور، فقد خرج عمله عن حد الإخلاص. انتهى.

وعموما فننصح السائل وغيره من المسلمين بدوام اليقظة والمراقبة، والحذر من محبطات الأعمال، والمداومة على تصفية النية من الشوائب حتى تحقق الإخلاص.

والله أعلم.