عنوان الفتوى : أهلها يرفضون عودتها إلى المنزل بعد وقوعها في الحرام

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

عندي أخت أصغر مني اضطرت لترك البيت بعد حملها من شخص تخلى عنها فتبرأ منها أبي ولم يعد يريد رؤيتها رغم أنه لا يعرف بهذه القصة والآن هي تطلب مني العودة ولكن أبي ليس راضيا وأنا أحبها وأريد أن تتصلح الأمورللإشارة فأخواتي أصبحن يكرهنني لأنني أتعاطف معها فماذا أفعل؟؟؟ وشكرا

مدة قراءة الإجابة : 8 دقائق


الحمد لله
أولا :
لا شك أن ما وقعت فيه أختك منكر عظيم ، وبلاء مبين ، نسأل الله الستر والسلامة ، وها قد رأيت أيتها السائلة ، ورأت أختك ما جنت على نفسها ، فأول من تحمل الألم والعار : هي !! فماذا تساوي اللذة الفاجرة التي أوقعها فيها الشيطان ، في جنب ما تعانيه من الألم ، والذلة ، والعار والخيبة والحسرة ؟!!
ثم انظري ـ يا أمة الله ـ ولتنظر أختك : إن أول من تخلى عنها ، هو الذي خدعها ، وفجر بها ، وهكذا شأن الشياطين ، يجرون أصحابهم إلى الهاوية ، حتى إذا أوقعوهم في الجحيم تبرؤوا منهم ؛ ولهذا قال الإمام ابن حزم رحمه الله : " أول من يزهد في الغادر : من غَدر له الغادر ، وأول من يمقت شاهد الزور : من شهد له به ، وأول من تهون الزانية في عينه : الذي يزني بها !!" . انتهى من "الأخلاق والسير" (75) .
وتأملي قول الله تعالى عن فعل الشيطان بأوليائه : ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ) الحشر/16-17 .
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
" ومثل هؤلاء المنافقين الذين غروا إخوانهم من أهل الكتاب كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإنْسَانِ اكْفُرْ أي: زين له الكفر وحسنه ودعاه إليه، فلما اغتر به وكفر، وحصل له الشقاء، لم ينفعه الشيطان ، الذي تولاه ودعاه إلى ما دعاه إليه ، بل تبرأ منه ، و قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أي : ليس لي قدرة على دفع العذاب عنك ، ولستُ بمُغْنٍ عنك مثقالَ ذرة من الخير . فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أي : الداعي الذي هو الشيطان ، والمدعو الذي هو الإنسان حين أطاعه أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا كما قال تعالى: إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ الذين اشتركوا في الظلم والكفر، وإن اختلفوا في شدة العذاب وقوته !!
وهذا دأب الشيطان مع كل أوليائه، فإنه يدعوهم ويدليهم إلى ما يضرهم بغرور، حتى إذا وقعوا في الشباك، وحاقت بهم أسباب الهلاك، تبرأ منهم وتخلى عنهم . واللوم كل اللوم على من أطاعه، فإن الله قد حذر منه وأنذر، وأخبر بمقاصده وغايته ونهايته، فالمُقْدِم على طاعته : عاصٍ على بصيرة ، لا عذر له " . انتهى من "تفسير السعدي" (852) .
ثانيا :
ليس من الحكمة أن يقابل ولي الأمر الذي ابتلي في بنته ، أو أحد أهل بيته ، هذه المصيبة بالانفعال غير الحكيم ، فيزيد الأمر سوءا وبلاء ، بل هذا في حقه مصيبة ، يجب عليه أن يصبر على ابتلاء الله له بها ، وأن ينظر في مقاصد الشرع وأدبه في مثل ذلك .
ومن المعلوم أن طرد مثل هذه البنت ، أو قتلها ، لن يخفف من المصيبة والشر شيئا ، بل الغالب في مثل هذه الأحوال إن أخوان الشياطين يتلقفون هؤلاء الفتيات وأمثالهن ، وقد انقطع بهن السبيل ، ودب اليأس إلى قلوبهن ، فيوقعونهن في شراك الرذيلة والغواية ، وبدل ما كان ذبنا واحدا ، وخطأ وقد مر ، يتحول ذلك إلى حياة كاملة في الرذيلة والخنا ، وضياع الدين والدنيا .
والحكمة أن ينظر ولي المرأة في أبواب الفساد والفتنة التي فتحت على موليته ، فيسدها عنها ، ويعمل على صيانتها ، وإصلاح شأنها ، وتطهيرها مما ألمت به بتوبة نصوح ، واستقامة فيما يأتي ، وهو في ذلك يؤدبها ، ولا يغفل عن رعايتها ؛ بل قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان إليها ، متى تابت من ذنبها ، وندمت عليه .
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حُبْلَى مِنْ الزِّنَى ، فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ . فَدَعَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيَّهَا فَقَالَ أَحْسِنْ إِلَيْهَا ، فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي بِهَا ، فَفَعَلَ .
فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ ؟!
فَقَالَ : لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى ؟!!
رواه مسلم (1696) .
قال النووي رحمه الله :
" قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَلِيِّ الْغَامِدِيَّة : ( أَحْسِنْ إِلَيْهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِي بِهَا ) هَذَا الْإِحْسَان لَهُ سَبَبَانِ :
أَحَدهمَا : الْخَوْف عَلَيْهَا مِنْ أَقَارِبهَا أَنْ تَحْمِلهُمْ الْغَيْرَة وَلُحُوق الْعَار بِهِمْ أَنْ يُؤْذُوهَا , فَأَوْصَى بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ .
وَالثَّانِي : أَمَرَ بِهِ رَحْمَة لَهَا إِذْ قَدْ تَابَتْ , وَحَرَّضَ عَلَى الْإِحْسَان إِلَيْهَا لِمَا فِي نُفُوس النَّاس مِنْ النُّفْرَة مِنْ مِثْلهَا , وَإِسْمَاعهَا الْكَلَام الْمُؤْذِي وَنَحْو ذَلِكَ فَنَهَى عَنْ هَذَا كُلّه . " انتهى " شرح صحيح مسلم" (11/205) .
ولا شك أن طرد البنت من البيت أبعد ما يكون عن واجب الرعاية ، وصيانتها من الوقوع في ذنب آخر ، فضلا عن الإحسان إليها الذي قد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد سأل رجل الإمام أحمد رحمه الله ، قال : إن لي امرأة وبنات لا يطيعوني، لا المرأة ولا الولد، وأنا أريد ان أخرج من بغداد وأدعهم ؟
فقال له الإمام : " لا أرى لك أن تدعهم وتذهب . تكون قريباً منهم تتعاهدهم أحبّ إليّ " .
"مسائل الإمام أحمد وإسحاق" (9/4758) .
والحاصل أن الواجب على ولي الأمر ألا يخرج ابنته عن رعايته ونظره وتأديبه ، حتى وإن وقعت في ذلك الذنب ، بل الواجب أن يكون رقابته لها ، وصيانته لها أكثر ، وأن يكون أحرص على سد أبواب الشر ، وقطع طرق الفساد إليها .
وينظر جواب السؤال رقم (106443) .
فما تفعلينه أنت من الحرص على صلاح الأمور هو الواجب عليكم جميعا ، وحاولي أن تقنعي والدك وأخواتك بذلك ، وليكن اهتمامكم الآن بإصلاح شأنها فيما هو آت ، وإصلاح ما مضى منها بالتوبة النصوح .
والله أعلم .