عنوان الفتوى : من تكلم بكلام يحتمل الردة وغيرها
تذكرت حادثة حدثت عند ما كنت أركب وراء صديقي على دراجة ذات محرك يعمل بالوقود فرفع صديقي العجلة الأولى من الدراجة عن الأرض فسببت الذات الإلهية ـ والعياذ بالله ـ لا أذكر, تبت من ذلك، ولكن تأتيني وساوس تقول لي إنك لم تقصد ذلك, فأنا شخص موسوس ويحدث لي الكثير من الوساوس الداخلية التي تقول لي إنك كفرت، يحدث هذا معي كثيرا ثم أقول اللهم إن كنت كفرت بك، أو أشركت بك فأنا أستغفرك وأتوب إليكمن شدة الوسواس كنت أصاب بالنعاس وكنت في السابق عندما يصيبني وسواس مثلا يقول إنك تعمل حركة معينة للشيطان فأنت تعبده ويحدث معي ذلك كثيرا في الصلاة فكنت أذهب وأتوب وأغتسل وأنطق بالشهادتين وأنا في حيرة من أمري فأنا أقول اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك يا الله من جميع أعمالي الكفرية ومن جميع أقوالي الكفرية التي أعلمها الآن والتي نسيتها والتي عملتها وأنا أشك أنني عملتها وكنت سببا فيها، فتصيبني وساواس من جميع الأنواع مثلا الاستهزاء: فمرة من المرات قرأت القرآن بصورة غير لائقة كالذي يغني فظننت أنني كفرت ثم بدأ معي الوسواس وكل مرة أقرأ شيئا يقول لي إنك كذا وكذا كذلك، فهل توبتي صادقة عندما أتوب بالطريقة التي قلتها أعلاه، لأنني أخشى أن أكون عملت، أو قلت شيئا مكفرا يخرجني من الملة؟ لا أعرف ماذا أفعل فكلما أريد أن أتوب يقول لي شيء أنت غير قاصد فمثلا الحادثة التي حدثت معي أعلاه اتهمت نفسي أني السبب وتبت من ذلك هل توبتي صادقة ويوجد في قلبي شك أنني تسببت في ذلك العمل؟ وهل عندما أتوب من حقوق الله يجب أن أعتذر للذين اغتبهم والذين كان علي لهم حقوق؟ فقد قرأت بموقع الإسلام وجواب شيئا يقول ذلك عن التوبة النصوح، أو لم أفهم ما كتب، كذلك قرأت في الأنترنت في موقع أن العزم على عدم الرجوع إلى المعصية ليس شرطا ضروريا في التوبة أصبحت عندي بلبلة في الموضوع وكذلك عندما أتوب من عمل معين يكفي أن أتوب من نوع العمل وحده أم من كل مرة ارتكبت فيها العمل؟ وهل يجب أن أعتذر للذين ارتكبت في حضورهم المعصية في الحادثة أعلاه؟ أرشدوني ماذا أفعل؟ فأنا أعاني منذ أسبوع تقريبا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن ما شاع من تعود بعض الناس على سب الرب تبارك وتعالى يعتبر بلية من أشد البلايا ورزية من أعظم الرزايا، ومن مخاطر ذلك أن أهل العلم قديما وحديثا اتفقوا على أن من سب الله تعالى على أي وجه كفر سواء كان مازحا، أو جادا، أو مستهزئا، وقد سبق بيان ذلك بالأدلة من نصوص الوحي وأقوال أهل العلم في الفتويين رقم: 71499 ورقم: 23340 نرجو أن تطلع عليهما.
وأما كونك لست متذكرا هل كنت تقصد ما قلت أم لا؟ فهذا دليل على وسوستك وعدم جزمك بشيء فيما حصل، وما دام الاحتمال موجودا فلا شيء عليك, وعليك بالاعراض عن التفكير في الأمر وعدم الاسترسال في الوساوس فقد ذكر أهل العلم أن من تكلم بكلام يحتمل الردة وغيرها لا يكفر بذلك, كما قال علي القاري في شرح الشفا: قال علماؤنا: إذا وجد تسعة وتسعون وجها تشير إلى تكفير مسلم ووجه واحد على إبقائه على إسلامه فينبغي للمفتي والقاضي أن يعملا بذلك الوجه، وهو مستفاد من قوله عليه السلام: ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم, فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله, فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة. رواه الترمذي والحاكم. اهـ.
ثم إنا ندعوك إلى إبعاد الوساوس عن نفسك, وأشغل خواطرك بما يفيدك من علم نافع وعمل صالح وشغل وظيفي تستفيد منه، فإن علاج الوساوس هو الإعراض الكلي عنها، فقد سئل ابن حجر الهيتمي عن داء الوسوسة هل له دواء؟ فأجاب بقوله: له دواء نافع, وهو الإعراض عنها جملة كافية, وإن كان في النفس من التردد ما كان، فإنه متى لم يلتفت لذلك لم يثبت، بل يذهب بعد زمن قليل كما جرب ذلك الموفقون, وأما من أصغى إليها وعمل بقضيتها فإنها لا تزال تزداد به حتى تخرجه إلى حيز المجانين, بل وأقبح منهم كما شاهدناه في كثيرين ممن ابتلوا بها وأصغوا إليها وإلى شيطانها، فتأمل هذا الدواء النافع الذي علمه من لا ينطق عن الهوى لأمته, واعلم أن من حرمه فقد حرم الخير كله، لأن الوسوسة من الشيطان اتفاقا, واللعين لا غاية لمراده إلا إيقاع المؤمن في وهدة الضلال والحيرة ونكد العيش وظلمة النفس وضجرها إلى أن يخرجه من الإسلام وهو لا يشعر: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا {فاطر:6} ـ وذكر العز بن عبد السلام وغيره نحو ما قدمته فقالوا: دواء الوسوسة أن يعتقد أن ذلك خاطر شيطاني وأن إبليس هو الذي أورده عليه وأنه يقاتله فيكون له ثواب المجاهد، لأنه يحارب عدو الله, فإذا استشعر ذلك فر عنه. انتهى.
وأما الاستغفار والتوبة فيصحان من الذنوب كلها سواء تعلقت بحق الله أم بحق العباد، ومن تاب من المعاصي المتعلقة بحق الله تعالى لا يلزمه الاعتذار للناس، بل يتعين عدم ذلك أحيانا سترا لنفسه، فإن الناس قد ينسون بعض ما شاهدوه وقد لا يكونون اطلعوا عليه أصلا، وعلى التائب أن يعزم على عدم العود للذنب فيما يأتي من حياته وأن يتوب من جميع ذنوبه السابقة ويكفي أن يستغفر الله مما علم وما لم يعمل، فعن أبي موسى الأشعري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك, فإنه أخفى من دبيب النمل، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه, ونستغفرك لما لا نعلمه. رواه أحمد وحسنه الألباني.
وروى البخاري في الأدب المفرد عن معقل بن يسار قال: انطلقت مع أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده , للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم. وصححه الألباني.
وقال ابن القيم في مدارج السالكين: ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة مما يعلم من ذنوبه ومما لا يعلم, فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه, ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكنا من العلم, فإنه عاص بترك العلم والعمل, فالمعصية في حقه أشد, وفي صحيح ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، فقال أبو بكر: فكيف الخلاص منه يا رسول الله؟ قال: أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم, وأستغفرك لما لا أعلم ـ فهذا طلب الاستغفار مما يعلمه الله أنه ذنب ولا يعلمه العبد، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو في صلاته: اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني, اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي, اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني, أنت إلهي لا إله إلا أنت ـ وفي الحديث الآخر: اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله خطأه وعمده سره وعلانيته أوله وآخره ـ فهذا التعميم وهذا الشمول لتأتي التوبة على ما علمه العبد من ذنوبه وما لم يعلمه. اهـ.
والله أعلم.