عنوان الفتوى : تفسير قوله تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )
بعض الناس يربط بين أن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يقتل إلا رجلاً واحداً في حياته و بين الآية الكريمة : ( و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ... فهل هناك وجه لهذا الربط ؟
الحمد لله
أولا :
قال تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، وقد اختلف أهل العلم في "
العالمين " الذي أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رحمة لهم .
قال ابن جرير رحمه الله :
" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك يا محمد إلى خلقنا
إلا رحمة لمن أرسلناك إليه من خلقي .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى هذه الآية ، أجميع العالم الذي أرسل إليهم محمد أريد
بها مؤمنهم وكافرهم ؟ أم أريد بها أهل الإيمان خاصة دون أهل الكفر ؟
فقال بعضهم : عني بها جميع العالم المؤمن والكافر .
فعن ابن عباس قال : من آمن بالله واليوم الآخر كُتب له الرحمة في الدنيا والآخرة ،
ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف .
وقال آخرون : بل أريد بها أهل الإيمان دون أهل الكفر .
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي رُوي عن ابن عباس ، وهو أن الله أرسل نبيه
محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالم ، مؤمنهم وكافرهم . فأما مؤمنهم فإن
الله هداه به ، وأدخله بالإيمان به ، وبالعمل بما جاء من عند الله الجنة . وأما
كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذّبة رسلها من قبله
".انتهى باختصارمن
"تفسير الطبري" (18 / 551-552) ، وينظر : "تفسير ابن كثير" (5 / 385) ، "تفسير
السعدي" (ص 532) .
وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله :
" ففي إرساله صلى الله عليه وسلم رحمة حتى على أعدائه من حيث عدم معاجلتهم بالعقوبة
". انتهى من "فتاوى الحديثية" (ص 34) .
ومما يبين هذه الرحمة العامة بإرسال نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم ، قول الله تعالى : ( وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا
هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ
ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ
فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) الأنفال/32-33
.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله :
" وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّتِهِ ، وَلَا مِنْ مُقْتَضَى
رَحْمَتِهِ وَلَا حِكْمَتِهِ ، أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ
فِيهِمْ ، وَهُوَ إِنَّمَا أَرْسَلَكَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، وَنِعْمَةً لَا
عَذَابًا وَنِقْمَةً ، بَلْ لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ أَيْضًا أَنْ يُعَذِّبَ
أَمْثَالَهُمْ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ وَهُمْ فِيهِمْ ، بَلْ كَانَ يُخْرِجُهُمْ
مِنْهُمْ أَوَّلًا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " انتهى من "تفسير المنار" (9/545) .
وتأمل ذلك الموقف البديع ، لنبي الرحمة صلى الله عليه
وسلم ، وقد كذبه أهل الطائف ، وآذوه أذى بالغا ، وهو إنما كان يدعوهم إلى أن يوحدوا
الله ، ولا يريد منهم شيئا سواه :
روى البخاري (3231) ومسلم (1795) أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، زَوْجَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ
يَوْمِ أُحُدٍ ؟
قَالَ : ( لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ !! وَكَانَ أَشَدَّ مَا
لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ
يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ ،
فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا
بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ
أَظَلَّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ ، فَنَادَانِي فَقَالَ : إِنَّ
اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ
بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ !!
فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ،
إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ ،
وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ ؛ فَمَا شِئْتَ ؛ إِنْ
شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ !!
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَلْ أَرْجُو
أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا
يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ) .
ثانياً :
ذكر غير واحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل بيده إلا أبي بن
خلف ، قتله يوم أحد .
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" والنبي صلى الله عليه وسلم كان أكمل الناس في هذه الشجاعة التي هي المقصودة في
أئمة الحرب ، ولم يقتل بيده إلا أبي بن خلف ، قتله يوم أحد ، ولم يقتل بيده أحدا لا
قبلها ولا بعدها".انتهى من "منهاج السنة النبوية" (8 / 57) .
ولعل الله تعالى أراد لهذا الشقي أشد العذاب ، فقدّر عليه أن يُقتل بيد النبي صلى
الله عليه وسلم ، فقد كان من أشد الناس عداوة له ولدينه ؛ فقد روى البخاري (4076)
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ : ( اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ
قَتَلَهُ نَبِيٌّ ، وَاشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) .
وروى أحمد (3858) عن ابن مسعود رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ وَمُمَثِّلٌ
مِنْ الْمُمَثِّلِينَ )
وحسنه الألباني في "الصحيحة" (281)
ثالثا :
لا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – وإن لم يقتل بيده الشريفة إلا هذا الشقي -
هو الذي شرع الجهاد وأمر به وحرض المؤمنين عليه ، ولا منافاة بين أن يشرع الجهاد
ويأمر به ، ويقتل هذا الشقي أو غيره ، لا منافاة بين ذلك كله ، وبين قوله تعلى : (
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ؛ فإن الله تعالى إنما أرسله ليخرج الناس من
الظلمات إلى النور ، ويهديهم إلى صراطه المستقيم ، وشرع له الجهاد في سبيله وقتال
أعدائه الذين يريدون إطفاء نور الله ويسعون في الأرض فساداً ويبغونها عوجاً .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) التوبة / 73 .
وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ )
الأنفال/ 65 .
فكان الجهاد في سبيل الله وقتال أعداء الله من أعظم
أسباب نشر الدين وإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وهذه أعظم رحمة
نالت العباد : أن ينجيهم الله من الكفر إلى الإيمان ، ومن الظلمات إلى النور .
ولأجل عظم قدر هذه الرحمة ، من حيث لا يشعر العباد ولا يظنون ، فقد عجب منها رب
العالمين :
عن أبي هُرَيْرَةَ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( عَجِبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى
الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ ) . رواه البخاري (3010) .
وفي تفسير قول الله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) ،
قَالَ أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ ؛
تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي
الْإِسْلَامِ ) .
رواه البخاري (4557) .
وتأمل ذلك برحمة أرحم الراحمين ، الذي لا يبلغ الواصفون وصف رحمته ، ولا يبلغ
العالمون كنهها ومداها ، سبحانه ، لا يحيط به العباد علماً ؛ أرحم بعباده من
الوالدة بولدها ، كما أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك : يبتليهم
بالمصائب والمحن ، لحكمة بالغة ، ويعذب أعداءه بالنكال والهوان في الدنيا ، والخلود
في جهنم يوم القيامة ، ولا ينافي ذلك كله كمال رحمته بعباده ، سبحانه .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |