عنوان الفتوى : توضيحات لكلام ابن قدامة حول ما يلزم التائب من الردة
سؤالي يتضمن عدة نقاط، فاصبروا علي بارك الله فيكم، ليعم الخير على المسلمين إن شاء الله ( آسف لأن رسالتي تتضمن عدة أسئلة ، لكن أظنها ضرورية لكل مسلم و مسلمة)1) قرأت في المغني لابن قدامة رحمه الله أن الندم و الاستغفار و القول أنني مسلم يجزئ المرتد إذا أراد أن يتوب و يجزئ عن التلفظ بالشهادتين، و ذلك لأن كلمة " أنا مسلم " تتضمن " الإقرار بالشهادتين، فماذا تقولون؟2) هل الندم والاستغفار - حسب قول ابن قدامة - رحمه الله - يكون ندما واستغفارًا عاديًا ، كاستغفار التائب من الذنب أو الكبيرة ، أم يكون استغفارًا وندمًا بنية الدخول في الإسلام؟3) يقول بن قدامة - رحمه الله - أنه يجب الغسل على التائب من الردة ، فهل يجوز لي أن أقلده بقوله المذكور في البندين السابقين ( أن الندم والاستغفار مع قول المرتد بأني مسلم يجزئه) ولا آخذ بقوله في مسألة الغسل؟4) بالنسبة للأقوال التي تقول إن على المرتد أن يأتي بالشهادتين ليتوب، هل المقصود أن يأتي بالشهادتين بنية الدخول في الاسلام؟ أم أن يأتي بالشهادتين على سبيل العادة كما يفعل كل مسلم ؟5) هنالك أشخاص يرتدون - لأي سبب كان - و بالأخص وقت الغضب ، لكن تراه بعد فترة معينة بعد أن يسكن غضبه يأتي بالشهادتين و يتشهد و يستغفر ربه جلا و علا فما حكمه ؟ لأنه غالبًا يأتي بالشهادتين على سبيل العادة ولا يعد نفسه وقت أن تلفظ بالكفر - عياذًا بالله - كافرًا، بل ويصعب عليه أن يطلق عليه ويقال عنه و قت أن تلفظ بالكفر " كافر"6) لو أردت أن أقلد قول ابن قدامة - رحمه الله - ( بأن الندم و الاستغفار مع قول الشخص الذي ارتد أنا مسلم ، بأن ذلك يجزئه ) فهل يستطيع أحد أن ينكر علي؟7) إذا ندم المرتد و استغفر ، لكن لم يقل أنا مسلم ، لأنه يعتبر نفسه أصلًا أنه مسلم و باق على إسلامه، ولم يرتد ، فما الحكم حينها؟ وإنك إن سألته ما دينك لقال الإسلام ؟ فهل إقراره في نفسه أنه مسلم يجزئه بعد أن تاب وندم؟8) في البلد التي أقطنها ، هنالك كثير من الناس يتلفظون بالكفر -و العياذ بالله - فكيف نتعامل مع أمثال هؤلاء من الناحية الاجتماعية ( في المناسبات..... هل يجوز تهنئتهم أو تعزيتهم) ومن الناحية الاقتصادية ( فكثير منهم أصحاب محلات تجارية وعمال .... ) فهل يجوز الشراء من دكاكينهم والتعامل معهم أو أن أحضر عاملًا منهم ليصلح لي أمرًا ما ؟ علمًا أنهم بالرغم مما يتلفظون به من ألفاظ بشعة إلا أن احترامه للدين الاسلامي وشعائره باق؛ لأنه يظن أنه مسلم، فتراه مستعدًا لأن ينفق من ماله للدين أو حتى أن يبذل نفسه للدين. فهل نتعامل معه من باب تأليف قلبه لدعوته؟ وماذا مع المعاندين منهم، وهم قليل والحمد لله؟9) بسبب كثرة من يسب الدين في منطقتنا والعياذ بالله، فهل تطبق قاعدة عموم البلوى في منطقتنا ، فلا يفرق بين الزوجين ويصلى على الساب إذا مات؟بارك الله فيكم، وسامحوني على الإطالة.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن كلام ابن قدامة يحمل على من أنكر توحيد الله، فيكفي إقراره بشهادة التوحيد، فقد ذكر أنه إذا ثبتت الردة بالبينة أو غيرها فشهد المرتد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لم يكشف عن صحة ما شهد عليه به وخلي سبيله، ولا يكلف الإقرار بما نسب إليه لقوله صلى الله عليه و سلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز و جل. متفق عليه. ولأن هذا يثبت به إسلام الكافر الأصلي، فكذلك إسلام المرتد ولا حاجة مع ثبوت إسلامه إلى الكشف عن صحة ردته.اهـ ، وما ذكره هنا لا خلاف فيه ولا ينكر تقليده فيه.
وأما من ارتد بغير ذلك فلا بد من إقراره إذا أنكر شيئا من أمور الإسلام، ولا تكفي شهادة التوحيد، فلا بد من الإتيان بالشهادتين مع الجزم واليقين بما كان قد شك فيه، كما قال في زاد المستقنع: ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه فتوبته مع الشهادتين إقراره بالمجحود به. اهـ
وقد ذكر ابن قدامة في المغني كلاما معناه إن كلام الخرقي محمول على من كفر بجحد الوحدانية أو جحد رسالة محمد صلى الله عليه و سلم أو جحدهما معا. فأما من كفر بغير هذا فلا يحصل إسلامه إلا بالإقرار بما جحده، ومن أقر برسالة محمد صلى الله عليه و سلم وأنكر كونه مبعوثا إلى العالمين لا يثبت إسلامه حتى يشهد أن محمدا رسول الله إلى الخلق أجمعين، أو يتبرأ مع الشهادتين من كل دين يخالف الإسلام، وإن زعم أن محمدا رسول مبعوث من الله، ولكنه ليس محمد بن عبد الله الذي نعتقد نحن أنه أرسل إلى هذه الأمة فلا يقبل منه ذلك إلا إذا أقر بنبوة ورسالة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم؛ لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أنه أراد ما اعتقده، قال رحمه الله : وان ارتد بجحود فرض لم يسلم حتى يقر بما جحده ويعيد الشهادتين لأنه كذب الله ورسوله بما اعتقده، وكذلك إن جحد نبيا أو آية من كتاب الله تعالى أو كتابا من كتبه أو ملكا من ملائكته الذين ثبت أنهم ملائكة الله، أو استباح محرما فلا بد في إسلامه من الإقرار بما جحده. وأما الكافر بجحد الدين من أصله إذا شهد أن محمدا رسول الله واقتصر على ذلك ففيه روايتان :
إحداهما : يحكم بإسلامه لأنه [ روي أن يهوديا قال: أشهد أن محمدا رسول الله ثم مات فقال النبي صلى الله عليه و سلم : صلوا على صاحبكم ] ولأنه لا يقر برسالة محمد صلى الله عليه و سلم إلا هو مقر بمن أرسله وبتوحيده لأنه صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وقد جاء بتوحيده.
الثانية : أنه إن كان مقرا بالتوحيد كاليهود حكم بإسلامه لأن توحيد الله ثابت في حقه، وقد ضم اليه الإقرار برسالة محمد صلى الله عليه و سلم فكمل إسلامه، وإن كان غير موحد كالنصارى والمجوس والوثنيين لم يحكم بإسلامه حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وبهذا جاءت أكثر الأخبار وهو الصحيح لأن من جحد شيئين لا يزول جحدهما إلا بإقراره بهما جميعا إن قال أشهد أن النبي رسول الله لم نحكم بإسلامه لأنه يحتمل أن يريد غير نبينا، وإن قال أنا مؤمن أو أنا مسلم فقال القاضي: يحكم بإسلامه بهذا وإن لم يلفظ بالشهادتين لأنهما اسمان لشيء معلوم معروف وهو الشهادتان، فاذا أخبر عن نفسه بما تضمن الشهادتين كان مخبرا بهما ....
أما من كفر بجحد نبي أو كتاب أو فريضة ونحوها فلا يصير مسلما بذلك، لأنه ربما اعتقد إن الإسلام ما هو عليه، فان أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون ومنهم من هو كافر اهـ بتصرف .
وأما حكم غسل المرتد، فقد ذهب المالكية والحنابلة إلى وجوب الغسل على الكافر الأصلي، والمرتد إذا أسلم، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن ثمامة بن أثال رضي الله عنه أسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل. متفق عليه.
وعن قيس بن عاصم: أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر. رواه النسائي وغيره بإسناد صحيح.
وروى ابن هشام في السيرة، والطبري في تاريخه: أن سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، حين أرادا الإسلام، سألا مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة، كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قالا: نغتسل، ونشهد شهادة الحق. وقد قيد المالكية ذلك بما إذا كان قد حصل منه موجب للاغتسال كالجنابة والحيض والنفاس، كما في مختصر خليل وشروحه، والمغني لابن قدامة.
وذهب الحنفية والشافعية إلى استحبابه لا وجوبه، لعدم استفاضة النقل بالأمر به مع كثرة الداخلين في الإسلام والراجح القول الأول. ولكن الاغتسال ليس شرطا في صحة توبة المرتد اتفاقا عند أهل العلم.
وأما تقليدك لابن قدامة في مسألة وتقليد غيره في أخرى فهو جائز كما ذكر غير واحد من أهل العلم، واحتجوا بإجماع السلف على أن من استفتى أبا بكر وعمر فله أن يستفتي غيرهما من صغار الصحابة ، وأن من استفتى أحدا من الأئمة الفقهاء فله أن يستفتي غيره، ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل.
قال القرافي في الذخيرة : انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء من غير حجر، وأجمع الصحابة رضوان الله عليهم على أن من استفتى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أو قلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ويعمل بقولهما من غير نكير، فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل. اهـ
ولا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين دون اعتقاد واستيقان بمدلولهما مع انقياد وإخلاص، وقد دلت أحاديث كثيرة على أن لكلمة التوحيد شروطا منه ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة"رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه، فبشره بالجنة رواه مسلم.
و قوله صلى الله عليه وسلم: وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً، يصدق قلبه لسانه، ولسانه قلبه". رواه أحمد.
ولابد من الإخلاص في قولها: لقوله صلى الله عليه وسلم: فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله رواه البخاري ومسلم.
قال صاحب فتح المجيد: (قوله: "من شهد أن لا إله إلا الله" أي: من تكلم بها عارفاً لمعناها، عاملاً بمقتضاها، باطناً وظاهراً، فلابد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولهما، كما قال تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) [محمد: 19]. وقوله: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) [الزخرف: 86]، أما النطق بها من غير معرفة لمعناها، ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه: من البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح ، فغير نافع بالإجماع.
قال القرطبي في المفهم على صحيح مسلم:- باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لابد من استيقان القلب ـ هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كافٍ في الإيمان، وأحاديث هذا الباب تدل على فساده. بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها. ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح. وهو باطل قطعاً). انتهى.
وأما ما يحصل من العوام من النطق بالكفر ووقوع بعضهم في السب فهو أمر خطير، ولكن ينبغي عدم التسرع ، وعدم حمل ما يصدر من الناس على الكفر ما لم يتأكد من حصول الكفر به.
فإن للحكم بالكفر على شخص معين شروطا لا بد من توافرها وموانع لا بد من انتفائها ولهذا لا بد من الرجوع في هذه المسائل العظيمة الكبيرة إلى الحكام الشرعيين أو من يقوم مقامهم من أهل العلم ومن لم يثبت كفره بيقين فالأصل بقاؤه على الإسلام وتجري عليه أحكام المسلمين. وأما من حكم عليه بالردة فلا يصلى عليه.
ويتعين الجد والاهتمام بتوعية الناس وتبصيرهم بمسائل العقيدة حتى يتبينوا الحق من الباطل، ويعلموا مخاطر الشرك، ويحذروا الأقوال والأفعال المكفرة، كما ينبغي الإكثار من قول لا إله إلا الله كلما وقع الإنسان في لفظ محظور لقوله صلى الله عليه وسلم: من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله... رواه البخاري معلقاً ورواه ابن حبان والبيهقي.
كما ينبغي أيضاً الاستعاذة من الشرك والاستغفار منه دائماً بالدعاء الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه، حيث قال له: والذي نفسي بيده للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره، قل: اللهم أني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم. رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
والله أعلم.