عنوان الفتوى : الانتصار من الظالم.. رؤية أخلاقية
أفيدوني جزاكم الله خيرا في قضية رد الظلم بالظلملقد ظلمني شخص وآلمني كثيرا، لا زلت أشعر بالألم بسببه وأنا لم أسامحه ولن أسامحه. فهل يجوز لي شرعا أن أرد له هذا الظلم لأرتاح من نكبتي؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فليعلم أولا أن العفو أقرب للتقوى, فإذا أراد المسلم الخير التام والمثوبة الحسنى فليعف عمن أساء إليه أو ظلمه مهما كان ظلمه جسيما أو كان جرمه في حقه عظيما, قال الله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {الشورى : 43}. وقال: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ { آل عمران:134}. وقال تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا {النساء:149}. وقال صلى الله عليه وسلم : وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا. رواه مسلم. والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا, فنحن ندعوك إلى العفو والصفح عمن أساء إليك أو ظلمك طلبا لمثوبة الله وعفوه عنك في الآخرة، فإن من عفا عفا الله عنه ومن سامح سامحه الله والجزاء من جنس العمل. وإن أبيت إلا الانتصار لنفسك وأخذ حقك فهذا جائز ما لم تتعد حدود الله بأذية غير من آذاك أو بتجاوز الحد في الاستيفاء وكانت المظلمة مما يجوز مقابلة الظالم بمثلها , وقد قال تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ {النحل : 126}. وقال تعالى : وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ {الحج: 60}. وقال: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ {البقرة:194}. وقال تعالى : وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ {الشورى:41}. قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ {البقرة:194} : وقالت طائفة: ما تناولت الآية من التعدي بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم والجنايات ونحوها لم ينسخ , وجاز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي به عليه إذا خفى له ذلك, وليس بينه وبين الله تعالى في ذلك شيء. قاله الشافعي وغيره, وهي رواية في مذهب مالك، وقالت طائفة من أصحاب مالك : ليس ذلك له , وأمور القصاص وقف على الحكام . والأموال يتناولها قوله صلى الله عليه وسلم: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك. خرجه الدارقطني وغيره. فمن ائتمنه من خانه فلا يجوز له أن يخونه ويصل إلى حقه مما ائتمنه عليه, وهو المشهور من المذهب, وبه قال أبو حنيفة تمسكا بهذا الحديث, وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا {النساء : 58} . قلت : والصحيح جواز ذلك كيف ما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقا , وهو مذهب الشافعي وحكاه الداودي عن مالك , وقال به ابن المنذر , واختاره ابن العربي, وأن ذلك ليس خيانة وإنما هو وصول إلى حق. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انصر أخاك ظالما أو مظلوما . وأخذ الحق من الظالم نصر له. وقال صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له : إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه , فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف . فأباح لها الأخذ وألا تأخذ إلا القدر الذي يجب لها. وهذا كله ثابت في الصحيح , وقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ {البقرة:194} قاطع في موضع الخلاف. انتهى.
وإذا كان الانتصار لا يؤمَن فيه الحيف والتعدي فالسلامة وترك الانتصار أولى.
قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {الشورى:40} : والمعنى : أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة , فإذا قال أخزاك الله قال : أخزاك الله . فمن عفا وأصلح بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء. كما قال تعالى : فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم {فصلت:34} فأجره على الله عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم . وقوله : إنه لا يحب الظالمين دلالة على الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة والاعتداء خصوصا في حال الحرد والتهاب الحمية فربما كان المجازي من الظالمين وهو لا يشعر. انتهى .
والله أعلم .