عنوان الفتوى : الشرع الحنيف لم يأت بتعطيل المصالح خوفا من فوت صلاة الجماعة
قرأت الأعذار لترك صلاة الجماعة في كتب الفقه فلم أستطع أن أنزلها على حالتي، والنتيجة أنني انعزلت في بيتي لا أخرج منه بتاتا حفاظا على صلاة الجماعة، ومنذ سنة وأنا لا أفوت تكبيرة الإحرام في الصف الأول عن يمين الإمام وأعيش في رعب شديد خوفا من أن تفوتني، ولن أكمل دراستي، ولن أعمل اعتماداً على والدي وأتهرب من الأشياء التي من الممكن أن تضيع علي صلاة الجماعة مما عطل حياتي ووقوع أبي وأمي في المشقة لاحتياجهم لي في قضاء مصالحهم لذلك أريد ضابطا سهلا أعرف به الأعذار التي تنجيني عذاب الله، لأن ما أتعرض له في حياتي من مستجدات لا أجده بعينه في كتب الفقه ولا أستطيع القياس، فهل يكفي الوقوع في الحرج، لأنني أجد الأعذار المذكورة شديدة ولذلك اخترت الزهد في الحياة، لأن الخوض فيها سيضطرني لتفويت الجماعة، والدنيا كلها لا تساوي صلاة جماعة واحدة، ولكن المستجدات تفرض نفسها علي؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فاعلم أن دين الله يسر لا عسر فيه وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث بالحنيفية السمحة، ولم يبعث لتعنيت الناس والمشقة عليهم، وقد رفع الله بفضله عن هذه الأمة الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا في الدين من حرج ـ ولله الحمد ـ فما تفعله من التعنيت على نفسك وإيقاع نفسك في الحرج العظيم بترك قضاء مصالحك والنظر فيما ينفعك في أمر دنياك وآخرتك خوفا من فوت الجماعة أمر لم تأت به الشريعة البتة، بل هذا من الغلو والتنطع المذموم الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ الذين هم أطوع الخلق لله ـ لم يترك أحد منهم السعي في طلب المعاش والنظر في مصالحه لمثل هذا، ونحن إذ نحمد لك حرصك على الجماعة ونسأل الله أن يزيدك حرصا على الخير ورغبة فيه ندعوك إلى نبذ الغلو، وأن تعلم أن الأمر أيسر من ذلك بكثير ـ والحمد لله ـ فاخرج في قضاء مصالحك ومصالح والديك ما شئت، وأنت ببرك لوالديك مطيع لله ومتقرب إليه بعبادة من أجل العبادات، وحيث أذن بالصلاة وأنت في شغلك بمصالحك فائت المسجد وصل فيه مع الجماعة، فإن أتيت الصلاة وكانوا قد صلوا بعضا فصل معهم ولك ثواب الجماعة، بل إنك لو أتيت وكانوا قد فرغوا من الصلاة كنت حائزا أجر الجماعة بنيتك رحمة من الله وفضلا، ففي سنن أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله عز وجل له حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عز وجل عنه سيئة فليقرب أحدكم، أو ليبعد فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضاً وبقي بعض صلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك، فإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك.
وإن لم تصل الجماعة في المسجد وصليتها في غيره من الأماكن كعملك، أو بيتك مع بعض أهلك كان ذلك مجزئا عنك ومسقطا لفرض الجماعة عند أكثر الموجبين لها ولم يكن عليك إثم في ذلك وإن فاتتك فضيلة المسجد، وانظر الفتوى رقم: 128394.
وإن كان لك عذر يبيح ترك الجماعة فصليت منفردا لم يكن عليك إثم في تركها، وهذه الأعذار ليست بالشديدة ـ كما زعمت ـ وهي منضبطة كما بينها العلماء، فمنها المرض، أو خوف حدوثه، أو المطر، أو الوحل، أو مدافعة أحد الأخبثين، أو حضور الطعام الذي تشتهيه، أو الخوف على مال، أو نفس، أو أهل من حصول ضرر، فإذا خشيت على نفسك ضررا في بدن، أو معيشة تحتاجها لم يكن عليك إثم في ترك الجماعة، ونحن ننقل لك بعض ما ذكره صاحب الروض المربع ليتبين لك ما ذكرناه، قال ـ رحمه الله: ويعذر بترك جمعة وجماعة مريض، لأنه صلى الله عليه وسلم لما مرض تخلف عن المسجد وقال مروا أبا بكر فليصل بالناس ـ متفق عليه ـ وكذا خائف حدوث مرض، ويعذر بتركهما مدافع أحد الأخبثين ـ البول والغائط ـ ومن بحضرة الطعام وهو محتاج إليه ويأكل حتى يشبع، لخبر أنس في الصحيحين ويعذر بتركهما خائف من ضياع ماله، أو فواته، أو ضررا فيه كمن يخاف على ماله من لص، أو نحوه، أو له خبز في تنور يخاف عليه فسادا، أو له ضالة، أو آبق يرجو وجوده إذا، أو يخاف فوته إن تركه ولو مستأجرا لحفظ بستان، أو مال، أو يتضرر في معيشة يحتاجها، أو كان يخاف بحضوره الجمعة، أو الجماعة موت قريبه، أو رفيقه، أو لم يكن من يمرضهما غيره، أو خاف على أهله، أو ولده، أو كان يخاف على نفسه من ضرر، أو كان يخاف بحضورهما ـ أي الجمعة والجماعة ـ من فوات رفقته بسفر مباح سواء أنشأه، أو استدامه، أو حصل له غلبة نعاس يخاف به فوت الصلاة في الوقت، أو مع الإمام، أو حصل له أذى بمطر ووحل وكذا ثلج وجليد وبرد وبريح باردة شديدة في ليلة مظلمة، لقول ابن عمر كان النبي صلى الله عليه وسلم ينادي مناديه في الليلة الباردة، أو المطيرة صلوا في رحالكم ـ رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، وكذا تطويل إمام. انتهى بتصرف يسير.
وبه يتبين لك أن خوف الضرر في المعيشة ونحو ذلك عذر يبيح ترك الجماعة على أننا نذكرك ـ أيها الحبيب ـ بأن صلاة الجماعة لا تجب في المسجد عند جماهير العلماء ـ كما تقدم ـ فإذا صليت في جماعة خارج المسجد فقد أديت الواجب.
والله أعلم.