عنوان الفتوى : اختلاف الابتلاءات بين العباد وتنزه الله عن الظلم
لماذا يبتلي الله عباده بابتلاءات مختلفة؟ هل هذا عادل ؟ أتساءل عن المساواة في القدر وأن الله قادر على ذلك خاصة أننا سوف نخضع لنفس المصير أي الآخرة ويجب علينا خوض الامتحان، لكن الامتحان ليس متكافئا فإن البشر يمتحنون بامتحانات مختلفة ويقبلون أحد مصيرين إما الفشل أو النجاح فكيف ذلك هل يصح أن تمتحن كل طالب بامتحان خاص به ثم تحدد درجات النجاح والرسوب هذا غير عادل. أنا مؤمن بأن الله يستطيع ايجاد التعادل بين البشر بكل شيء فكما أعرف أن هناك الكثير من الفقراء ليسوا مرتاحين البال لشدة الأعباء وقد تجد منهم من يتمسك بإيمانه وينجح بالاختبار لكن لماذا ليس الجميع يمرون بنفس هذا الاختبار؟ وتجد أغنياء مؤمنين ملتزمين بتعاليم الدين ويتمتعون بصحة جيدة يحمدون الله على ذلك وقد نجحوا أيضا بالاختبار لكن هذا الاختبار لا أدري لمذا يختلف بين الناس أليسو سواسية؟ وأيضا أليس هناك أناس قبيحو الخلقة لذا يتعرضون لهذا الامتحان دون غيرهم؟ أليس هناك من فقد والديه وعاش يتيما. نعم إنه امتحان. أنا أعرف ذلك لكن لماذ ليس الجميع هكذا أين العدل؟ كل واحد يمر باختبار خاص وأخيرا النتيجة واحدة إما الجنة أو النار. هل يعقل هذا؟ أنا محتار لدرجة كبيرة ولم أجد تفسيرا لذلك أنا أفكر بدخول الإسلام لكني حائر.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذا السؤال ونحوه يدور في فلك مسألة من المسائل العظام، وأصلها في معرفة معنى الظلم الذي نزه الله تعالى نفسه عنه، فمن عرف حقيقة الظلم أيقن أن الله تعالى لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
قال ابن القيم ـ كما في (مختصر الصواعق) ـ: إن طرق الناس اختلفت في حقيقة الظلم الذي يُنزَّه عنه الرب سبحانه وتعالى، فقالت الجبرية: هو المُحال الممتنع لذاته كالجمع بين الضدين وكون الشيء موجوداً معدوماً، قالوا: لأن الظلم إما التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وإما مخالفة الأمر، وكلاهما في حق الله تعالى محال، فإن الله مالك كل شيء وليس فوقه آمِر تجب طاعته ... وقال أهل السنة والحديث ومن وافقهم: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهو سبحانه حكم عدل لا يضع الشيء إلا في موضعه الذي يناسبه، ويقتضيه العدل والحكمة والمصلحة. اهـ.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا...
فأجاب جوابا طويلا مفصلا مزيلا لأصل الإشكال، وكان مما قال: إن الناس تنازعوا في معنى هذا الظلم تنازعًا صاروا فيه بين طرفين متباعدين ووسط بينهما، وخيار الأمور أوساطها، وذلك بسبب البحث في القدر ومجامعته للشرع؛ إذ الخوض في ذلك بغير علم تام أوجب ضلال عامة الأمم؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن التنازع فيه. اهـ.
ثم فصل ذلك ـ رحمه الله ـ فقال: وبهذا يتبين القول المتوسط، وهو أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه مثل: أن يترك حسنات المحسن فلا يجزيه بها، ويعاقب البريء على ما لم يفعل من السيئات، ويعاقب هذا بذنب غيره، أو يحكم بين الناس بغير القسط، ونحو ذلك من الأفعال التي ينزه الرب عنها لقسطه وعدله وهو قادر عليها، وإنما استحق الحمد والثناء؛ لأنه ترك هذا الظلم وهو قادر عليه. وكما أن الله منزه عن صفات النقص والعيب فهو أيضًا منزه عن أفعال النقص والعيب. اهـ.
والخلاصة أن الظلم الذي يجب نفيه عن الله تعالى هو الظلم المتعلق بالجزاء، فالله تعالى لا يجزي العبد إلا بعمله، ولا يعذبه إلا بذنبه، ولا يضيع أجر المحسنين من الصابرين والشاكرين.
وأما الظلم هنا في الدنيا فلا يتحقق إلا بوضع الشيء في غير موضعه، وهذا لا يكون في حكم الله أبدا، ولكننا لقصور علمنا ونقص معرفتنا لا ندرك كثيرا من مواضع الحكمة، وليس عندنا ما يؤهلنا لقدر كل شيء قدره، ووضع كل شيء موضعه.
وأما الله تعالى فله الحجة البالغة والحكمة التامة، وهو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير.
ولنضرب على ذلك مثالا لمجرد التقريب، مع الاعتراف بالفارق الهائل بين المسألتين، فالطلبة في الدراسات المدنية والاجتماعية المختلفة، تنوَّعت توجهاتهم الدراسية بحسب تفاوت مؤهلاتهم العلمية أو العقلية أو النفسية وغير ذلك، فكلٌّ يتوجه إلى ما يناسبه، حتى إنك تجد في الكلية الواحدة تخصصات مختلفة، فهل يعقل أن توحد امتحانات جميع الطلاب في المرحلة النهائية التي ينبني عليها نوع العمل والوظيفة، باعتبار أن ذلك هو الذي يترتب عليه تحديد رواتبهم ومكانتهم الاجتماعية، أم أن الحكمة قاضية بأن يكون امتحان كل شخص بحسب مؤهلاته، ثم بحسب طبيعة ما سيناط به من أعمال، ثم بحسب المكانة التي سيتبوؤها؟ فكذلك في امتحان الآخرة، يبتلي الله تعالى كل عبد بما يناسب الحكمة كما وكيفا، لأنه تعالى هو الذي يعلم مؤهلاته وصفاته الظاهرة والباطنة، وما يناسبها من تحديد المصير والعاقبة. ومما يقرب ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها. رواه أبو يعلى وابن حبان والحاكم، وصححه الألباني. فهذا الابتلاء وإن كان موافقا للحكمة التي يعلمها الله، فإنه بالنسبة لنا غير معلوم الحكمة لو لم يذكرها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعدم علمنا لا يطعن في ذات الحكمة.
ومن وجه آخر، فإنه يمكن للناظر في تفاوت أنواع ودرجات الامتحان، أن يدرك من طرف خفي أن أصول البلاء تجتمع تقريبا في حق كل أحد، بحيث تُستخرَج منه عبادتي الشكر والصبر معا، على تفاوت بينهما. فإنك لا يمكن أن تجد أحدا في عافية تامة من كل شر ومحنة، أو أحدا قد أُعطي كل أنواع النعم مجتمعة. بل التفاوت والتقابل هو السمة الظاهرة، فتجد رجلا فقيرا عنده من الصحة وقوة البدن ما يوازي ما عند الغني المريض. وتجد من ولِد يتيما عنده من المؤهلات العقلية وغير ذلك ما يسبق به ذا الوالد من أقرانه، وهكذا. وقد سبق لنا أن نبهنا على الحكمة من وراء تفاوت الناس في الأرزاق والنعم، في الفتوى رقم: 17831. ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين: 77624، 71516.
وأخيرا نهيب بالأخ السائل إن أراد أن يتعرف على الإسلام ـ أن يرجع إلى القرآن الكريم ويجتهد في قراءة معانيه وتفسيره، فهذا هو كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسيجد فيه من المحكمات ما تُرَد له الأمور المشتبهة، فهاهنا مثلا سيعرف من صفات الله تعالى ما يوجب تنزهه عن الظلم، ويثبت له الحكمة التامة وسائر صفات الكمال، وهذا إن رسخ في القلب كان كافيا لرد شبهته هذه، وهكذا سيجد لكل شبهة أصلا محكما يبطلها ويردها. ونسأل الله تعالى أن يشرح للحق صدرك، ويوفقك لأرشد أمرك.
والله أعلم.