عنوان الفتوى : دواؤك في التوبة النصوح ومجاهدة النفس
ارتكبت بعض المعاصي ثم تبت، ثم رجعت وارتكبت ثم تبت الخ ... اشعر بالخوف وضيق بالصدر والحرج وكثير من الوساوس، و أشعر بأن قلبي قاس و متحجر ونفسي مريضة، وأشعر بعض الأحيان بأنني مراء والعياذ بالله، وعند ما أقرأ أو أسمع القرآن لا أشعر بالخشوع ولا الخوف، ولا أركز في قراءة القرآن واشرد ولا أشعر بحلاوة الايمان، أشعر بالاحباط و أشعر بانني أكذب على نفسي. فما هو العلاج لهذه الامراض وكيف أحقق الخشوع والخوف وحلاوة الإيمان والتوبة النصوح ؟ أفيدوني وانصحوني.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فصلاح القلب وملؤه بالخشوع والخوف من الله تعالى والإقبال به على الله تعالى، وغرس شجرة الإيمان الصادق فيه من أعظم المقاصد التي ينشدها المسلم، فإن صلاح القلب هو صلاح البدن كله كما قال صلى الله عليه وسلم: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب. متفق عليه.
والذنوب والمعاصي من أعظم الحجب بين العبد وبين ربه تعالى، فإنها إذا كثرت وتتابعت غطت القلب حتى تغشاه الظلمة فلا ينتفع بالوعظ ولا يؤثر فيه التذكير، كما قال تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ. {المطففين:14}.
قال ابن كثير: وقد روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق، عن محمد بن عَجْلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول الله: { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }. وقال الترمذي: حسن صحيح. ولفظ النسائي: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكِت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر وتاب صُقِل قلبه، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي قال الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. انتهى.
فإذا علمت هذا فإن متابعتك للذنوب وعدم توبتك منها وإقلاعك عنها إقلاعا تاما هو من أكبر أسباب ما تشكو منه من الوحشة وضيق الصدر وعدم الالتذاذ بالطاعة.
قال ابن القيم ضمن كلامه على آثار المعاصي: ومنها وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله لا يوازنها ولا يقارنها لذة أصلا، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة، وما لجرح بميت إيلام، فلو لم تترك الذنوب إلا حذرا من وقوع تلك الوحشة لكان العاقل حريا بتركها، وشكى رجل إلى بعض العارفين وحشة يجدها في نفسه فقال له: إذا كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنس، وليس على القلب أمر من وحشة الذنب على الذنب فالله المستعان. انتهى.
وإذا تبين لك هذا فإن رأس العلاج لما تشعر به هو توبة نصوح سالمة من الآفات مصحوبة بالندم والعزم الأكيد على عدم العودة إلى الذنوب، ومما يعينك على ذلك أن تكثر اللجأ إلى ربك تعالى فإن القلوب بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فاجتهد في دعائه والتضرع له والتوكل عليه أن يثبت قلبك على دينه ويصرف قلبك إلى طاعته.
وعليك بصحبة الأخيار والصالحين الذين يذكرونك إذا نسيت وينبهونك إذا غفلت فإن صحبة الصالحين من أعظم أسباب حياة القلب، والزم حلق الذكر ومجالس العلم فإن العلم النافع من أعظم ما تنور به القلوب وتصلح به النفوس، وإذا أردت الانتفاع بما تتلوه وتسمعه من القرآن فاستمع لهذه النصيحة من المحقق ابن القيم رحمه الله يقول: قاعدة جليلة اذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله، قال تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. انتهى.
وعليك بمجاهدة نفسك في نوافل العبادات من قيام وصيام تطوع ونحو ذلك فإن الله تعالى قال في الحديث القدسي: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه. رواه البخاري.
فجاهد نفسك واحمل عليها حملة صادقة حتى تألف ما تكرهه وتعتاد ما يشق عليها، وحينئذ تؤدي الحق سماحة لا كظما وتلتذ بالطاعة وتأنس بها أضعاف أضعاف ما يلتذ العاصي بمعصيته، وإياك وترك الطاعة إذا سول لك الشيطان أنك تفعلها رياء بل عليك أن تجتهد في فعل الطاعات وتبالغ في تحصيل الإخلاص ما أمكن، وفقنا الله وإياك لما فيه رضاه.
والواجب عليك هو القيام بالفرائض وأما النوافل فينبغي لك الاكثار منها بقدر طاقتك فهي مقربة لك إلى ربك، وإذا وقعت في الذنب بعد التوبة فعليك أن تتوب ثانية وهكذا.
واحذر من أن يقنطك الشيطان من التوبة فالله عز وجل يقبل منك التوبة كلما تبت صادقا.
والله أعلم.