عنوان الفتوى : خلق الله لغيره من آثار كماله
سؤالي عن الغاية من خلق الكون، والجواب هو (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، ولكن أليس الله غنيا عن العالمين، لا ينفعه إيمان المؤمنين ولا يضره كفر الكافرين، هل هناك غاية من خلق الكون وكل ما فيه، ما هي؟ ماذا يقول الإسلام عن الغاية من الوجود غير مسألة العبادة، هل هي إعمار الارض، ما معنى إعمار الأرض؟ أليس كل شيء سينتهي يوم القيامة، إحقاق الحق والعدل على الأرض، ثم ماذا؟ هل هناك هدف معين من الوجود؟ أم من الأفضل لنا كمسلمين أن نسكت ولا نسأل، علما أن هذا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
الجواب على ما ذكرت من إشكال هو بإدراك أمرين:
الأول: أن الله متصف بالحكمة، والأدلة على ذلك من خلقه وشرعه كثيرة جداً لا تخفى على ناظر، فإذا خفي علينا بعض حكمته كان ذلك لنقصنا لا لعدم حكمة الله تعالى، فإن عجزت عقولنا عن إدراك حكمة الله تعالى في أمر ما، فلا يجوز أن ننكر حكمة الله تعالى، وإنما لا بد أن نثبتها ونثبت عجز عقولنا عن الإحاطة بجميع حكمة الله تعالى.
الثاني: التفريق بين حاجة الله إلى خلقه، وبين استلزام كمال الله أن توجد آثاره في غيره، فإذا كان من لوازم كرم الإنسان أن يتفضل على الفقير بالمال والعطاء، فهل يقال إن الكريم محتاج إلى الفقير؟! كلا، فالمحتاج هنا هو الفقير وليس الكريم، وإنما عطاء الكريم للفقير من أثر اتصافه بالكرم واستلزامه له، فلا يكون كريماً من لا يتفضل على الآخرين بالعطاء، ففرق بين حاجة الكريم إلى الفقير، وبين استلزام كرم الكريم أن يكرم الفقير... وإذا كان لا يلزم من ظهور آثار كمال العبد على غيره أن يكون العبد محتاجاً إلى هذا الغير، فمن باب أولى أن لا يلزم من ظهور آثار كمال الله في خلقه أن يكون الله محتاجاً إلى الخلق.
وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: الجواب العاشر: أن الرب سبحانه كامل في أوصافه وأسمائه وأفعاله فلا بد من ظهور آثارها في العالم، فإنه محسن ويستحيل وجود الإحسان بدون من يحسن إليه ورزاق فلا بد من وجود من يرزقه، وغفار وحليم وجواد ولطيف بعباده ومنان ووهاب وقابض وباسط وخافض ورافع ومعز ومذل وهذه الأسماء تقتضي متعلقات تتعلق بها وآثار تتحقق بها، فلم يكن بد من وجود متعلقاتها وإلا تعطلت تلك الأوصاف وبطلت تلك الأسماء، فتوسط تلك الآثار لا بد منه في تحقق معاني تلك الأسماء والصفات فكيف يقال أنه عبث لا فائدة فيه وبالله التوفيق.
وقد فصل ذلك وتعرض له مراراً في الباب الثالث والعشرين من استيفاء شبه النافين للحكمة والتعليل وذكر الأجوبة عنها، وهو من أهم أبواب الكتاب وأعظمها شأناً، فأرجو أن يوفقك الله تعالى لقراءته والاستفادة منه، والمقصود: أن كمال الله من لوازم ذاته، وأن خلقه لغيره من آثار كماله تعالى لا أنه محتاج إلى غيره، فإنه هو الغني الحميد، وما عداه محتاج إلى الله فقير إليه، فاتصاف الله بالرحمة يستلزم وجود من يرحمه الله، واتصاف الله بالعدل يستلزم وجود من يجري عليه حكم الله العادل، وهكذا جميع أسماء الله وصفاته التي تقتضي وجود آثارها في خلق الله تعالى.. وكما أن عدل القاضي يستلزم عدله بين الناس ولا يكون القاضي محتاجاً لوجود المجرمين والظالمين، فمن باب أولى أن يكون عدل الله يستلزم عدله في عباده ولا يكون الله محتاجاً لوجود الظالمين والمجرمين، وهكذا يقال في كل صفة كمال لله تعالى تقتضي آثارها في خلقه، فإن ظهور أثرها لا يعني حاجة الله إلى غيره، بل ما سوى الله محتاج إلى الله عز وجل، والله هو الغني الحميد.. فإذا جمعنا بين ثبوت حكمة الله تعالى في جميع خلقه وأمره وبين تنزه الله عن الحاجة إلى خلقه، وأن ما يظهر في خلقه من آثار صفاته إنما هو من كمال الله تعالى، زال الإشكال الذي سببه عدم التفريق بين الحاجة وآثار الكمال، واتضح عموم حكمة الله تعالى لكل شيء وهو المطلوب.
والله أعلم.