عنوان الفتوى : الغاية من يوم القيامة وأحوال الناس فيه
ما الغاية من يوم القيامة ونشر الصحف و
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فان الأولى بالمسلم أن يشتغل بتعلم الوحيين ويؤمن بما دلت عليه النصوص، وأن لا يتكلف الخوض في الشبه فأمور الآخرة غيب وكلنا سيرد فيعلم أحوالها، والواجب علينا أن نعد العدة لها بالإيمان والعمل الصالح وأن نحرص على هداية ذوينا وأمتنا حتى نظفر فيها بما يسعدنا ونسلم من العذاب، فالواجب هو الإيمان والتسليم لما ثبت في النصوص سواء فهمنا حكمته أم لا.
وأما عن سؤالك الأول: فإن الغاية من يوم القيامة وما فيه من الحساب ونشر الصحف هو إظهار نتائج الابتلاء في الدنيا وجزاء الله لعباده في يوم الدين ليجزى كل فرد بما يستحق في دار الحياة الحقيقية، فالخلق يبعثون للمجازاة على أعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
والحياة الحقيقية إنما تكون في الآخرة، وأما الدنيا فهي دار ابتلاء وامتحان، فمن أحسن فيها، واتقى ربه سبحانه كان من الفائزين المنعمين في الآخرة، ومن أساء لقي جزاء إساءته. قال الله تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ. {يونس: 4}. وقال سبحانه: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى. {طه: 15}. وقال تعالى: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ. {الجاثية: 29-31}.
وقال سبحانه: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. {التغابن: 7}. وقال سبحانه في الذي يأخذ كتابه بيمينه: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ*قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ. {الحاقة: 21-24}.
وقال سبحانه في الذي يأخذ كتابه بشماله: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ. {الحاقة: 25-37}.
إلى غير ذلك من الآيات المحكمات.
وأما عذاب القبر ونعيمه فهو حق لقيام الدليل عليه من الكتاب والسنة الصحيحة. مثل قوله تعالى: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ. {غافر: 45-46}.
وقوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ. {الأنعام: 93}.
وهو مؤشر لنعيم المؤمن في الآخرة وشقاء الكافر حيث يرى كل منهما مقعده في الآخرة، ويدل لذلك ما رواه البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم. أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعا، وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين.
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات أحدكم فإنه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار.
ولكنه قد يعذب بعض العصاة فيطهر في قبره ثم يكون مصيره إلى الجنة دون عذاب في الآخرة، كما أن بعض الطائعين قد يسلم من عذاب القبر ثم يتعب في الآخرة بسبب حقوق العباد.
وبهذا يعلم أنه قد يختلف الحال يوم القيامة عما قبله.
وأما عن فرح أو خوف المقبور فقد أجبنا عليه في الفتوى رقم: 129060.
وأما عن حال العاصي ومن يستقبله من الملائكة فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه تستقبله ملائكة العذاب ومما يدل لذلك ما في صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ.
وقد ذكر ابن القيم في مدارج السالكين، أن بشرى الملائكة للمؤمنين -يعني البشرى المذكورة بسورة فصلت- لا ينالها من العصاة إلا من طيب ومحص بالاستغفار والتوبة الصادقة التامة، أو بكثرة الحسنات الماحية للذنوب أو المصائب المكفرة، فإن محصته هذه الأربعة وخلصته كان من الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يبشرونهم بالجنة، وكان من الذين تتنزل عليهم الملائكة عند الموت أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة، وإن لم تف هذه الأربعة بتمحيصه وتطييبه محص في البرزخ بدعاء واستغفار وشفاعة أهل الإيمان الذين يصلون عليه صلاة الجنازة، وبفتنة القبر وما يهديه إليه إخوانه من الأعمال كالتصدق عنه والحج.
فإن لم تف هذه بالتمحيص محص في المحشر بأهوال القيامة وشدة الموقف وشفاعة الشفعاء وعفو الله، فإن لم تف هذه بتمحيصه فلا بد من دخول النار رحمة من الله في حقه حتى يطهر فيها وينقى، فإذا طيب فيها ومحص أخرج منها وأدخل الجنة.
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في الأضواء عند تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. {النحل:32}.
قال رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين الذين كانوا يمتثلون أوامر ربهم، ويجتنبون نواهيه، تتوفاهم الملائكة: أي يقبضون أرواحهم، في حال كونهم طيبين: أي طاهرين من الشرك والمعاصي على أصح التفسيرات ويبشرونهم بالجنة، ويسلمون عليهم.
وبين هذا المعنى أيضاً في غير هذا الموضع. كقوله: إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. {فصلت: 30 }، وقوله: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ. {الزمر: 73}، وقوله: وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ. {الرعد: 23-24}. والبشارة عند الموت، وعند دخول الجنة من باب واحد. لأنها بشارة بالخير بعد الانتقال إلى الآخرة.
ويفهم من صفات هؤلاء الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ويقولون لهم سلام عليكم ادخلوا الجنة أن الذين لم يتصفوا بالتقوى لم تتوفهم الملائكة على تلك الحال الكريمة، ولم تسلم عليهم، ولم تبشرهم.
وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر. كقوله: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ {النحل: 28} الآية، وقوله: إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كنتم {النساء: 97} إلى قوله وَسَآءَتْ مَصِيراً {النساء: 97}، وقوله: وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ {الأنفال: 50} الآية، إلى غير ذلك من الآيات. انتهى.
والله أعلم.