عنوان الفتوى : الأدلة على بعث الأجساد في الآخرة بعينها
قبل أن يدخل أصحاب الجنةِ، الجنةَ، يغتسلون -كما ورد في الحديث- بعيْنٍ، ويشربون من أخرى، فتتبدل أجسامهم وما تحوي، وكذلك جلودهم، وألوانها، والعقولُ قلوبا كانت، أو ألبابا، هي حشوش دم، وقذارات لا تنبغي لأصحاب الجنة. ومع الاتفاق من جنابكم أن عقول أهل الجنة لا تتغير، فتبقى بعلومها وفهومها، وتزداد. وقلوب الناس ليست سوى مضخات للدم. كذلك محدودية تحمل أجساد الناس، فَلَو فرضنا أن الإنسان يختزن كل ما يتعلم في لُب محدود الحجم، أو قلب محدود، فالعلوم في الجسد ليست سوى إلكترونات، مؤثرة في المواد الكيميائية للمخ. فإذا خَلَد الإنسان، امتلأ عقله حتى لا يعود قادراً على استيعاب المزيد، فيموت بعدم القدرة على الاستمرار في التفكير، إلا إذا كان كلما تعلم شيئاً نسي ما قبله، فيتحول ماضي الإنسان إلى عدم، فلا ذكرى مفرحة إلا بحدود، وينسى أمه وأباه، وتتحول العلوم إلى مستبدلات، فلا ينتفع بما مضى، ولن ينتفع بما هو آت إلا لحد. وفي الاحتمال الثاني الاستمرار في نمو الحجم حتى يتحول إلى كائن بطيء الحركة، ثم عاجز عن الحركة، ثم ميت ساكن؛ لكونه مهما كبر في الحجم، بقيت خلاياه بنفس الحجم الأول، وانتقال المواد الكيميائية داخلها، لها سرعة واحدة محددة؛ لذلك تتحرك الحيوانات الصغيرة: الحشرات بسرعة متضاعفة كثيراً بالنسبة لحجمها، والحيوانات الكبيرة تتحرك ببطء، فَلَو سلمنا أن تكوين أهل الجنة يشبه في مادة البناء الجسدي تكوين أهل الأرض، استحال خلودهم. ولو قلنا إنهم مخلوقون من جواهر مختلفة، فلا حامل للأفكار باقٍ من الدنيا سوى الروح؛ لذلك فلا بد أن القلب المعني في القرآن، هو قلب الروح، وأن الإنسان يفكر بروحه، ثم يدير اللب الفكرة للتحكم بالجسد. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال في القرآنِ برأيِه، فليتبوَّأْ مقعدَه من النَّارِ. لذلك أستسمحكم مراجعة صحة كلامي، وإن كانت عليه أدلة شرعية. وفقكم الله.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالمعروف عند أهل العلم أن نفس جسد الإنسان، يُعاد، ويبعث به في الآخرة، فقد جاء في الصحيحين، وغيرهما، من حديث ابن عباس أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: يا أيها الناس؛ إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة، عراة، غرلا، ثم قال: كما بدأنا أول خلق نعيده ... الحديث.
وثبت أن الناس يتعارفون بينهم، ومن المعلوم أن المعروف هو شكل الجسد الذي عرفه بعضهم من بعض في الدنيا، فقد قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ {يونس:45}.
وجاء في السنة ما يدل على تعارف الناس، ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف، ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر، وآتيه.
وقال ابن القيم في الفوائد: تأمل كيف دلت السورة ـ يعني سورة: ق ـ صريحا، على أن الله سبحانه يعيد هذا الجسد بعينه، الذي أطاع وعصى، فينعمه ويعذبه، كما ينعم الروح التي آمنت بعينها، ويعذب التي كفرت بعينها، لا أنه سبحانه يخلق روحا أخرى غير هذه، فينعمها ويعذبها، كما قاله من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل، حيث زعم أن الله سبحانه يخلق بدنا غير هذا البدن من كل وجه، عليه يقع النعيم والعذاب، والروح عنده عرض من أعراض البدن، فيخلق روحا غير هذه الروح، وبدنا غير هذا البدن. وهذا غير ما اتفقت عليه الرسل، ودل عليه القرآن والسنة، وسائر كتب الله تعالى، وهذا في الحقيقة إنكار للمعاد، وموافقة لقول من أنكره من المكذبين، فإنهم لم ينكروا قدرة الله على خلق أجسام أُخر غير هذه الأجسام، يعذبها وينعمها، كيف وهم يشهدون النوع الإنساني يخلق شيئا بعد شيء، فكل وقت يخلق الله سبحانه أجساما، وأرواحا غير الأجسام التي فنيت، فكيف يتعجبون من شيء يشاهدونه عيانا؟ وإنما تعجبوا من عودهم بأعيانهم، بعد أن مزقهم البلى، وصاروا عظاما ورفاتا، فتعجبوا أن يكونوا هم بأعيانهم مبعوثين للجزاء، ولهذا قالوا: أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون. وقالوا: ذلك رجع بعيد. ولو كان الجزاء إنما هو لأجسام غير هذه، لم يكن ذلك بعثا ولا رجعا، بل يكون ابتداء، ولم يكن لقوله: قد علمنا ما تنقص الأرض منهم. كبير معنى، فإنه سبحانه جعل هذا جوابا لسؤال مقدّر، وهو أنه يميز تلك الأجزاء التي اختلطت بالأرض، واستحالت إلى العناصر، بحيث لا تتميّز، فأخبر سبحانه بأنه قد علم ما تنقصه الأرض من لحومهم، وعظامهم، وأشعارهم، وأنه كما هو عالم بتلك الأجزاء، فهو قادر على تحصيلها، وجمعها بعد تفرّقها، وتأليفها خلقا جديدا. هـ.
وقد تكلم الغزالي في تهافت الفلاسفة، على تكفير الفلاسفة في إنكارهم بعث الأجساد وحشرها، وقال إن هذه المسألة لا تلائم الإسلام بوجه، ومعتقدها معتقد كذب الأنبياء.
وفي شرح الطحاوية لابن جبرين: إن كثيراً من الذين تسموا مسلمين، ينكرون هذا البعث -البعث الجثماني، أو البعث الجسماني- ويقال لهؤلاء: الفلاسفة الإلهيون، وهم الذين ينكرون:
أولاً: بدء الخلق، ويقولون: إن هذا الإنسان لم يزل قديماً، وليس له أول، فينكرون أن يكون أبو البشر آدم، وينكرون أن يكون بدء خلقه من طين، وينكرون أن يكون هناك وقت للإنسان لم يكن فيه شيئاً مذكوراً.
ثانياً: ينكرون نهاية الدنيا، ويقولون: الدنيا ليس لها آخر، وهذه الحياة تستمر أبداً إلى غير نهاية، ويعبرون عن هذا بقولهم: أرحام تدفع، وأرض تبلع، وينكرون عودة الأجساد، وجمعها بعد تفرقها، ويجعلون الجزاء على الأرواح، ويدعون أن هذه الأرواح هي التي أهبطت من السماء، واتصلت بالجسد، ثم بعد ذلك خرجت منه إلى حيث كانت، ويقول رئيسهم ابن سينا -وهو من أكابر الفلاسفة- في مطلع قصيدته العينية:
هبطت إليك من المحل الأرفعِ ورقاءُ ذات تقلب وتفجع
وصلت على كرهٍ فلما واصلت ألفت مرافقة الخراب البلقعِ
يصف الروح بأنها هبطت إليك من المكان الأرفع، ثم اتصلت بجسدك، ثم ألفته، إلى أن صارت كجزء منه، ثم بعد ذلك تنفصل وتعود كما كانت، فهؤلاء ما آمنوا بالله حق الإيمان؛ لأن الإيمان بالله يستدعي الإيمان بخبره، ومن خبره حشر الأجساد، وبعثها، وجمعها بعدما تتفرق، وهذا لم يؤمن به هؤلاء. اهـ.
وأما ما ذكرت من كون أصحاب الجنة يغتسلون بعين، ويشربون من أخرى، فتتبدل أجسامهم وما تحوي. فلم نر ما يدل عليه؛ ولذا نرجو أن ترسل لنا نص الحديث الذين زعمت دلالته على الأمر؛ لنفيدك في ثبوته، ودلالته.
والله أعلم.