عنوان الفتوى : الخوف من سكرات الموت وعذاب القبر وأهوال القيامة
أستمع كثيراإلى الدعاة، لكني أصبحت مرعوبا مما ينتظرني من: سكرات الموت التي لا تطاق، إلى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمن أصول الإيمان وأركانه: الإيمانُ باليوم الآخر، وفي حديث جبريل المشهورالمتفقِ على صحته، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال له: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدرخيره وشره.
ومن أوائل الصفات التي مدح الله بها المؤمنين في القرآن أنهم يوقنون بالآخرة فقال تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .{البقرة:3،4،5}
والقرآنُ مملوءٌ بأدلة إثبات البعث والثواب والعقاب، وهذا الأمرعند المسلمين أظهرُ من أن يُستدل عليه، بل قد أجمع أهل الأديان على إثباته، فمن أنكر البعثَ أو الجنة والنار، أو شك في شيءٍ من ذلك فهو مُكذبٌ للقرآن خارجٌ من ملة المسلمين.
وأما سكرات الموت فقد دل على ثبوتها الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات.
وعذاب القبر ونعيمه، والصراط والميزان، مما أجمع أهل السنة على إثباته، وتضافرت عليه الأدلة كتاباً وسنة، ولم ينكره إلا أهل البدع المنحرفون.
فحذارِ حذارِ أيها الأخ أن يُخالجك أدنى شك في صحة ما أخبر به القرآن، أو نطقت به نصوص السنة. وقد لخص شيخ الإسلام ابن تيمية ما يجبُ على المسلم اعتقاده في الإيمان باليوم الآخر، ونحنُ نسوق إليك كلامه بطوله لعل الله ينفعكَ به، ويهديكَ إلى الصواب، قال -رحمه الله- في الواسطية: ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمنون بفتنة القبر، وبعذاب القبر، وبنعيمه.
فأما الفتنة، فإن الناس يفتنون في قبورهم، فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي، وأما المرتاب فيقول: هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق.
ثم بعد هذه الفتنة، إمانعيم، وإماعذاب، إلى أن تقوم القيامة الكبرى. فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غُرْلاً، وتَدْنُو منهم الشمس، ويلجمهم العرق.
وتنصب الموازين، فتوزن فيها أعمال العباد، فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ .{المؤمنون:102، 103}
وتنشر الدواوين ـ وهي صحائف الأعمال ـ فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، أو من وراء ظهره، كما قال سبحانه وتعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا* اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا {الإسراء:13، 14}.
ويحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه، كما وصف ذلك في الكتاب والسنة.
وأما الكفار، فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها.
وفي عرصة القيامة الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر وعرضه شهر، من يشرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا.
والصراط منصوب على متن جهنم ـ وهو الجسر الذي بين الجنة والنار ـ يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوًا، ومنهم من يمشى مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يخطف فيلقى في جهنم، فإن الجسرعليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمن مر على الصراط دخل الجنة. فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة. انتهى.
وأما ما تجده من الخوف، فإن الخوفَ من عذاب الله من صفات المتقين ، وقد أثنى الله عليهم بذلك في غير موضع من كتابه ، فمن ذلك قوله تعالى : وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ {المعارج:27، 28}؛ وقوله تعالى: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {النور: 37، 38} ، ولكن هذا الخوف لا يكون محموداً إلا إذا كان مصحوباً بالرجاء، فيحملُ على الاجتهاد في العمل، وبذل الوسع في الطاعة والعبادة ليحصل للمسلم ما يرجوه، ويأمن مما يخافه ويخشاه ، وأما الخوف الذي يؤدي إلى القنوط واليأس من رحمة الله، فإنه مذموم وصاحبه على خطرٍ عظيم. قال تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ {الحجر:56}.
واعلم أيها الأخ الكريم أن المؤمن يُخفف عليه الموت جداً فتخرجُ روحه من جسده كما تسيل القطرة من في السقاء، ثم يصيرُ بعدها إلى مغفرةٍ من الله ورضوان، فينعم في قبره، ثم مآله إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، والمؤمن له الحياة الطيبة في دوره الثلاث: في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {النحل:97}
فعليكَ أخي أن تجتهد في طاعة الله ، وتبذل وسعك في مرضاته ، وتحسن الظن به ، ترجو رحمته، وتخاف عذابه . واعلم واعلم أن الآخرة لا تأتي المؤمن إلا بما يسره، فمهما فعلت ذلك وأصلحت قلبك وعملك أحببت لقاء الله عز وجل، وطمعت في رحمته ، وانظر الفتوى رقم: 117814 نسأل الله أن يؤمننا وإياك مما نخاف، وأن يرحمنا وإياك برحمته التي وسعت كل شيء.
والله أعلم.