عنوان الفتوى : الخوف من الرياء متى يكون صحيا لا مرضيا
إنني حفظت القرآن كاملاً بفضل الله، ولكني دائماً أبكي وأشعر أنني حفظته رياء، وأقول لنفسي إنني ممن تسعر بهم النيران. فهل هذه الوسوسة من الشيطان؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالحمد لله الذي منّ عليك بحفظ كتابه، ونسأله تعالى أن يوفقك إلى مزيد من الخير.. ثم اعلمي أن بكاءك وخوفك من الرياء علامة خير إن شاء الله، وقد كان هذا حال السلف رحمهم الله، فقد كانوا يجتهدون في أعمال البر وهم يخشون أن ترد عليهم وتحبط وهم لا يشعرون، والآثار عنهم في هذا الباب كثيرة، وفي البخاري عن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى على نفسه النفاق، وما منهم أحد يزعم أن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل.
فإذا كان هذا حال الصحابة فنحن أولى بذلك منهم بلا شك، وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو يخاف أن لا يتقبل منه. أخرجه الترمذي وابن ماجه.
ولكن ينبغي أن يكون هذا الخوف من الرياء ورد العمل وحبوطه خوفا صحياً إيجابياً لا مرضياً سلبياً، وذلك بأن يقود إلى المزيد من العمل والاجتهاد في فعل الخير مع مراقبة القلب وتعاهده، وإخراج بذور الشر منه، والتفطن لحيل الشيطان ودسائسه التي يكيد بها العبد. وهذا هو خوف السلف، وأما الخوف الذي يحطم ويهدم ويقعد عن الطاعة ويحمل على اليأس والقنوط فهو المذموم المرذول. فخوف العبد من حبوط عمله لا يكون نافعاً إلا إذا كان ممزوجاً بحسن الظن بالله مصحوباً بالرجاء... في فضله وسعة رحمته من غير إفراط يصل به إلى الحد الممنوع شرعاً.. وزبدة القول ما لخصه العلامة ابن القيم في مدارج السالكين في عبارة رائقة حقيق للقراء الكرام أن يلتفتوا إليها ويعيروها الاهتمام اللائق بها، ونحن نختم بها هذه الفتوى رجاء أن ينفع الله بها، قال رحمه الله: القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضه لكل صائد كاسر. انتهى.
والله أعلم.