عنوان الفتوى : إشكال حول قول يوسف عليه السلام : اذكرني عند ربك ؟!
هل الله يعاقب الأنبياء ؟ في قصة يوسف صلى الله عليه وسلم ، هل ترك في السجن لعدد من السنين ، كعقوبة من الله بسبب أنه سأل أحد زملائه في السجن أن يذكره عند ربه ، بينما أن الله هو الوحيد الذي يدعى بالرب ؟
الحمد لله
أولاً :
سبق أن تكلمنا عن عصمة الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، من الكبائر ،
ومن سفاسف الأخلاق ، وما يخل بالمروءات من فعل أهل الدناءات .
انظر جواب السؤال رقم : (7208)
، (42216) .
ثانيا :
أما قصة يوسف عليه السلام ، فأظهر القولين في تفسيرها أن الذي نسي ذكر ربه في هذه
الآية ، ليس هو يوسف عليه السلام ، وإنما هو السجين الآخر ، الذي طلب منه يوسف أن
يذكره عند ربه ، قال تعالى : ( وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا
اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ، فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ، فَلَبِثَ
فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ) سورة يوسف/42 .
وإذا كان الأظهر في تفسير الآية أن الناسي هو حامل الرسالة من يوسف إلى عزيز مصر ،
فليس في إرسال هذه الرسالة : أن يذكر العزيز بأمر يوسف ، شيء مما يخل بمنصب الرسالة
، بل ولا منصب التوكل على الله وإنزال الحوائج به .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " قال تعالى : ( فأنساه الشيطان ذكر ربه ) ،
قيل : أنسي يوسف ذكر ربه لما قال : ( اذكرني عند ربك ) .
وقيل : بل الشيطان أنسى الذي نجا منهما ذكر ربه ، وهذا هو الصواب ، فإنه مطابق
لقوله : ( اذكرني عند ربك ) ، قال تعالى : ( فأنساه الشيطان ذكر ربه ) ، والضمير
يعود إلى القريب إذا لم يكن هناك دليل على خلاف ذلك ؛ ولأن يوسف لم ينس ذكر ربه ؛
بل كان ذاكرا لربه . وقد دعاهما قبل تعبير الرؤيا إلى الإيمان بربه ، وقال لهما : (
يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار . ما تعبدون من دونه إلا
أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا
تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ، وقال لهما قبل ذلك
: ( لا يأتيكما طعام ترزقانه ) ، أي : في الرؤيا ( إلانبأتكما بتأويله قبل أن
يأتيكما ) ، يعني التأويل ، ( ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون
بالله وهم بالآخرة هم كافرون . واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا
أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون
) ، فبذا يذكر ربه عز وجل فإن هذا مما علمه ربه ؛ لأنه ترك ملة قوم مشركين لا
يؤمنون بالله وإن كانوا مقرين بالصانع ، ولا يؤمنون بالآخرة ، واتبع ملة آبائه أئمة
المؤمنين - الذين جعلهم الله أئمة يدعون بأمره - إبراهيم وإسحاق ويعقوب ؛ فذكر ربه
ثم دعاهما إلى الإيمان بربه ، ثم بعد هذا عبر الرؤيا ، فقال : ( يا صاحبي السجن أما
أحدكما فيسقي ربه خمرا ) الآية ، ثم لما قضى تأويل الرؤيا : ( وقال للذي ظن أنه ناج
منهما اذكرني عند ربك ) ، فكيف يكون قد أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه ؟
وإنما أنسى الشيطان الناجي ذكر ربه ، أي الذكر المضاف إلى ربه والمنسوب إليه ، وهو
أن يذكر عنده يوسف .
والذين قالوا ذلك القول ، قالوا : كان الأَولى أن يتوكل على الله ولا يقول اذكرني
عند ربك . فلما نسي أن يتوكل على ربه جوزي بلبثه في السجن بضع سنين .
فيقال : ليس في قوله : ( اذكرني عند ربك ) ما يناقض التوكل ؛ بل قد قال يوسف : ( إن
الحكم إلا لله ) كما أن قول أبيه : ( لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب
متفرقة ) لم يناقض توكله ، بل قال : ( وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا
لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ) .
وأيضا : فيوسف قد شهد الله له أنه من عباده المخلَصين ، والمخلص لا يكون مخلصا مع
توكله على غير الله ، فإن ذلك شرك ، ويوسف لم يكن مشركا ، لا في عبادته ولا توكله،
بل قد توكل على ربه في فعل نفسه بقوله : ( وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من
الجاهلين ) ، فكيف لا يتوكل عليه في أفعال عباده .
وقوله : ( اذكرني عند ربك ) مثل قوله لربه : ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ
عليم ) ، فلما سأل الولاية للمصلحة الدينية لم يكن هذا مناقضا للتوكل ، ولا هو من
سؤال الإمارة المنهي عنه ، فكيف يكون قوله للفتى : ( اذكرني عند ربك ) مناقضا
للتوكل ، وليس فيه إلا مجرد إخبار الملك به ؛ ليعلم حاله ، ليتبين الحق ، ويوسف كان
من أثبت الناس .
ولهذا بعد أن طلب : ( وقال الملك ائتوني به ) ، قال : ( ارجع إلى ربك فاسأله ما بال
النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ) ، فيوسف يذكر ربه في هذه الحال كما
ذكره في تلك .
ويقول : ( ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة ) ، فلم يكن في قوله له : ( اذكرني
عند ربك ) ترك لواجب ولا فعل لمحرم حتى يعاقبه الله على ذلك بلبثه في السجن بضع
سنين ...
والمقصود أن يوسف لم يفعل ذنبا ذكره الله عنه ، وهو سبحانه لا يذكر عن أحد من
الأنبياء ذنبا إلا ذكر استغفاره منه ، ولم يذكر عن يوسف استغفارا من هذه الكلمة "
انتهىباختصار .
"مجموع الفتاوى" (15/112-118) .
ثالثاً :
أما قول يوسف عليه السلام لصاحبه في السجن : ( اذكرني عند ربك ) ، فليس هذا من
ربوبية العبادة ، بل هو من ربوبية الملك والتصرف .
قال الفيروزآبادي : " رب كل شيء : مالكه ومستحقه وصاحبه ... ولا يقال الرب مطلقا
إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات ، وبالإضافة يقال لله تعالى ولغيره ، نحو :
رب العالمين ، ورب الدار " انتهى .
"بصائر ذوي التمييز" (3/29) .
وقال الراغب الأصفهاني : " ويقال : رب الدار ، ورب الفرس : لصاحبهما ، وعلى ذلك قول
الله تعالى : ( اذكرني عند ربك ) انتهى .
المفردات في غريب القرآن (186) .
ومراد الراغب رحمه الله : أن إطلاق الرب في الآية جائز ؛ لأنه الرب هنا مضاف إلى
صاحبه ، وليس ربا على جهة الإطلاق ، فهذا لا يجوز إلا لله تعالى .
لكن يشكل عليه أنه نهي عن مثل ذلك ، كما في حديث أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا
يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ ، وَضِّئْ رَبَّكَ ، اسْقِ رَبَّكَ ،
وَلْيَقُلْ : سَيِّدِي ، مَوْلَايَ ، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ : عَبْدِي ، أَمَتِي
، وَلْيَقُلْ : فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي ) رواه البخاري (2552) ،
ومسلم (2249) .
قال النووي رحمه الله : " قال العلماء : لا يطلق الرب بالألف واللام ، إلا على الله
تعالى خاصة ، فأما مع الإضافة فيقال : رب المال ، ورب الدار ، وغير ذلك ، ومنه قول
النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في ضالة الإبل : ( دعها حتى يلقاها ربها
) والحديث الصحيح ، ( حتى يهم رب المال من يقبل صدقته ) ، وقول عمر رضي الله عنه في
الصحيح : ( رب الصريمة والغنيمة ) ، ونظائره في الحديث كثيرة مشهورة .
وأما استعمال حملة الشرع ذلك ، فأمر مشهور معروف .
قال العلماء : وإنما كره للمملوك أن يقول لمالكه : ربي ؛ لأن في لفظه مشاركة لله
تعالى في الربوبية .
وأما حديث : ( حتى يلقاها ربها ) ، و ( رب الصريمة ) وما في معناهما ، فإنما استعمل
لأنها غير مكلفة ، فهي كالدار والمال ، ولا شك أنه لا كراهة في قول : رب الدار ،
ورب المال .
وأما قول يوسف عليه السلام : ( اذكرني عند ربك ) ، فعنه جوابان :
أحدهما : أنه خاطبه بما يعرفه ، وجاز هذا الاستعمال ؛ للضرورة ، كما قال موسى عليه
السلام للسامري : ( وانظر إلى إلهك ) طه / 97 ، أي : الذي
اتخذته إلها .
الجواب الثاني : أن هذا شرع من قبلنا ، وشرع من قبلنا لا يكون شرعا لنا إذا ورد
شرعنا بخلافه ، وهذا لا خلاف فيه .
وإنما اختلف أصحاب الأصول في شرع من قبلنا إذا لم يرد شرعنا بموافقته ولا مخالفته ،
هل يكون شرعا لنا ، أم لا ؟ " انتهى .
"الأذكار للنووي" (1/363) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " وَالسَّبَب فِي النَّهْيِ أَنَّ حَقِيقَة
الرُّبُوبِيَّة لِلَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّ الرَّبّ هُوَ الْمَالِك ، وَالْقَائِم
بِالشَّيْءِ فَلا تُوجَدُ حَقِيقَةُ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : سَبَب الْمَنْع أَنَّ الْإِنْسَان مَرْبُوبٌ مُتَعَبِّدٌ
بِإِخْلَاصِ التَّوْحِيد لِلَّهِ وَتَرْك الْإِشْرَاك مَعَهُ , فَكَرِهَ لَهُ
الْمُضَاهَاة فِي الِاسْم لِئَلَّا يَدْخُل فِي مَعْنَى الشِّرْك , وَلَا فَرْق فِي
ذَلِكَ بَيْن الْحُرّ وَالْعَبْد , فَأَمَّا مَا لَا تَعَبُّد عَلَيْهِ مِنْ سَائِر
الْحَيَوَانَات وَالْجَمَادَات فَلَا يُكْرَهُ إِطْلَاق ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْد
الْإِضَافَة كَقَوْلِهِ رَبّ الدَّار وَرَبّ الثَّوْب .
وَقَالَ اِبْن بَطَّال : لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَال لِأَحَدٍ غَيْر اللَّه رَبّ ,
كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَال لَهُ إِلَهُ ا ه . وَالَّذِي يَخْتَصُّ بِاللَّهِ
تَعَالَى إِطْلَاق الرَّبّ بِلَا إِضَافَةٍ , أَمَّا مَعَ الْإِضَافَة فَيَجُوزُ
إِطْلَاقُهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنْ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام (
اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) ، وَقَوْله : ( اِرْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ) ، وَقَوْله
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي أَشْرَاط السَّاعَة : ( أَنْ تَلِدَ الْأَمَة
رَبَّهَا ) ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْي فِي ذَلِكَ مَحْمُول عَلَى الْإِطْلَاق
, وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ , وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ
فَلِبَيَانِ الْجَوَاز . وَقِيلَ هُوَ مَخْصُوص بِغَيْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَرُدّ مَا فِي الْقُرْآن , أَوْ الْمُرَاد النَّهْي عَنْ
الْإِكْثَار مِنْ ذَلِكَ وَاِتِّخَاذ اِسْتِعْمَال هَذِهِ اللَّفْظَة عَادَة ,
وَلَيْسَ الْمُرَاد النَّهْي عَنْ ذِكْرهَا فِي الْجُمْلَة " انتهى .
"فتح الباري" (5/179) .
والحاصل :
أن اسم "الرب" الذي يختص به الله سبحانه وتعالى هو ما يطلق من غير قيد ، وأما إن
قيد برب شيء معين ، خاصة إذا كان هذا الشيء لا يعقل ، ولا يكلف بعبادة : فهو جائز ؛
ومنه هذه الآية .
وقد قيل في تأويلها أيضا : إنه خاطبهم بلغتهم التي يعرفونها ، أو أن ذلك كان جائزا
عندهم .
والله أعلم.