عنوان الفتوى : حول حديث الأعمى الذي قتل أم ولده لشتمها النبي صلى الله عليه وسلم

مدة قراءة السؤال : 5 دقائق

سؤالي يتعلق بالحديثين التاليين : ( أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه ، فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تتزجر ، قال فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه ، فأخذ المغول - سيف قصير - فوضعه في بطنها ، واتكأ عليها ، فقتلها ، فوقع بين رجليها طفل ، فلطخت ما هناك بالدم ، فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجمع الناس فقال : أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام ، فقام الأعمى يتخطى رقاب الناس وهو يتزلزل ، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ! أنا صاحبها ، كانت تشتمك وتقع فيك ، فأنهاها فلا تنتهي ، وأزجرها فلا تنزجر ، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين ، وكانت بي رفيقة ، فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك ، فأخذت المغول ، فوضعته في بطنها ، واتكأت عليها حتى قتلتها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا اشهدوا أن دمها هدر ) [ رواه أبو داود ، وقال عنه الألباني : صحيح ، في كتابه " صحيح سنن أبي داود " الحديث رقم (4361) [ " أن أعمى كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت له أم ولد ، وكان له منها ابنان ، وكانت تكثر الوقيعة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسبه فيزجرها ، فلا تنزجر ، وينهاها فلا تنتهي ، فلما كان ذات ليلة ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم ، فوقعت فيه ، فلم أصبر أن قمت إلى المغول ، فوضعته في بطنها ، فاتكأت عليه ، فقتلتها ، فأصبحت قتيلا ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فجمع الناس ، وقال : أنشد الله ! رجلا لي عليه حق فعل ما فعل إلا قام . فأقبل الأعمى يتدلدل فقال : يا رسول الله ! أنا صاحبها ، كانت أم ولدي ، وكانت بي لطيفة رفيقة ، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين ، ولكنها كانت تكثر الوقيعة فيك وتشتمك ، فأنهاها فلا تنتهي ، وأزجرها فلا تنزجر . فلما كانت البارحة ذكرتك فوقعت فيك ، قمت إلى المغول فوضعته في بطنها ، فاتكأت عليها حتى قتلتها . فقال رسول الله : ألا ؛ اشهدوا أن دمها هدر ) [ رواه النسائي ، وقال عنه الألباني : إسناده صحيح . في كتابه " صحيح سنن النسائي " الحديث رقم 4081 ] يلاحظ أن رواية أبي داود فيها عبارة غير موجودة في رواية النسائي ، وهي : " فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم " أنا أعلم حكم المرتد ، وأن المختص بتوقيع حد الردة هو السلطان أو نائبه . إن الذي لفت نظري هي العبارة المشار إليها أعلاه ، حيث أنه قد يتبادر إلى الذهن أن حد الردة يطبق أيضا على الجنين . هل هذه العبارة المشار إليها صحيحة وثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ وإذا كانت هذه العبارة صحيحة ، هل يمكن تفسير ذلك بأن الرجل كان أعمى ولم يكن يعلم أن أمته حامل ؟ وإذا كانت هذه العبارة صحيحة ، هل يمكن تفسير ذلك بأن الطفل لم يمت كما قال بذلك السيد لا أقصد من سؤالي إثارة الشكوك حول أن الإسلام هو الدين الحق ، ولكني أردت الرجوع إلى العلماء حتى يوافوني بالرد الذي أستطيع به الرد على من يطعن بالإسلام . وفقكم الله لما يحب ويرضى .

مدة قراءة الإجابة : 15 دقائق

الحمد لله
الكلام على هذه الحادثة المذكورة في السؤال في المسائل الآتية :
أولا : الحكم على الحديث .
الحديث رواه أبو داود ( 4361 ) ، ومن طريقه الدارقطني ( 3 / 112 ) ومن طرق أخرى أيضا ، ورواه النسائي في " المجتبى " ( 4070 ) وفي " السنن الكبرى " ( 2 / 304 ) ، وابن أبي عاصم في " الديات " ( رقم 249 ) والطبراني في " المعجم الكبير " ( 11 / 351 ) والحاكم في " المستدرك " ( 4 / 394 ) والبيهقي في " السنن الكبرى " ( 7 / 60 ) جميعهم من طرق عن عثمان الشحام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس به ، على اختلاف في ألفاظ الروايات وتطويل وتقصير .
وهذا سند حسن ، رواته ثقات ، ولذلك فقد قبل الحديث : أبو داود والنسائي بإخراجهما له وسكوتهما عنه ، والإمام أحمد أيضا ، فقد قال المجد ابن تيمية : " واحتج به أحمد في رواية ابنه عبد الله " انتهى من " نيل الأوطار " ( 7 / 208 ) ، وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وصححه الذهبي في " تلخيصه " ، وابن حجر في " بلوغ المرام " ( 363 ) وقال : رواته ثقات ، وقال الشيخ الألباني في " إرواء الغليل " ( 5 / 91 ) : إسناده صحيح على شرط مسلم . انتهى .
ويشهد له ما جاء عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَعُ فِيهِ ، فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ ، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهَا ) .
رواه أبو داود في " السنن " ( 4362 ) ، ومن طريقه : البيهقي في " السنن الكبرى " ( 7 / 60 ) ، والضياء المقدسي في " المختارة " ( 2 / 169 ) .
قال الشيخ الألباني في " إرواء الغليل " ( 1251 ) : إسناده صحيح على شرط الشيخين ، لكنه ضعفه في " ضعيف أبي داود " بالانقطاع .
ولعل الأقرب هو الحكم بإرسال الحديث ، فقد قال الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب " ( 5 / 68 ) : " وقال الدارقطنى فى " العلل " : لم يسمع الشعبي من عليٍّ إلا حرفاً واحداً ، ما سمع غيره .
كأنه عنى ما أخرجه البخاري فى " الرجم " عنه عن علي حين رجم المرأة قال : رجمتها بسنَّة النبى صلى الله عليه وآله وسلم " انتهى كلام ابن حجر .
لكن مراسيل الشعبي مقبولة عند كثير من أهل العلم ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في " الصارم المسلول " ( ص 65 ) : وهذا الحديث جيد ؛ فإن الشعبي رأى عليّاً ، وروى عنه حديث شراحة الهمدانية ، وكان على عهد علي قد ناهز العشرين سنة ، وهو كوفي ، فقد ثبت لقاؤه ، فيكون الحديث متصلا ، ثم إن كان فيه إرسال لأن الشعبي يبعد سماعه من علي : فهو حجة وفاقاً ؛ لأن الشعبي عندهم صحيح المراسيل ، لا يعرفون له مرسلا إلا صحيحا ، ثم هو من أعلم الناس بحديث علي ، وأعلمهم بثقات أصحابه . انتهى .
وللقصة شاهد آخر يرويه ابن سعد في " الطبقات الكبرى " ( 4 / 210 ) فيقول :
أخبرنا قبيصة بن عقبة قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن معقل قال : ( نزل ابن أم مكتوم على يهودية بالمدينة عمة رجل من الأنصار ، فكانت ترفقه وتؤذيه في الله ورسوله ، فتناولها فضربها فقتلها ، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أما والله يا رسول الله إن كانت لترفقني ، ولكنها آذتني في الله ورسوله ، فضربتها فقتلتها .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبعدها الله تعالى ، فقد أبطلت دمها ) .
وهذا السند رواته ثقات .
والحاصل بمجموع هذه الروايات : أن أصل القصة ثابتة في السنة النبوية .
ولكن : هل هي حادثة واحدة أم متعددة ؟ .
الذي يبدو أنها حادثة واحدة ، وإليه مال شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال :
ويدل عليه – أي : على أنها حادثة واحدة - : كلام الإمام أحمد ؛ لأنه قيل له في رواية عبد الله : في قتل الذمي إذا سَبَّ أحاديث ؟ قال : نعم ، منها حديث الأعمى الذي قتل المرأة ، قال : سمعها تشتم النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم روى عنه عبد الله كلا الحديثين .
ويؤيد ذلك : أن وقوع قصتين مثل هذه لِأَعْمَيَيْنِ ، كل منهما كانت المرأة تحسن إليه وتكرر الشتم ، وكلاهما قتلها وحده ، وكلاهما نشد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيها الناسُ : بَعِيدٌ في العادة .
" الصارم المسلول " ( ص 72 ، 73 ) باختصار .
ويبقى إشكال في الجمع بين الاختلاف الذي جاء في الروايات في طريقة قَتل اليهودية : هل كان خنقاً أم طعناً بالسيف في بطنها ؟ .
ذكر ابن تيمية فيه احتمالين : احتمال أن ابن أم مكتوم خنقها ثم طعنها ، والاحتمال الثاني وجود الخطأ في إحدى الروايتين .
انظر " الصارم " ( ص 72 ) .
ثانياً:
ليس في الرواية ما يدل على أنه كان في بطن اليهودية جنين ، ومَن فهم ذلك مِن السياق فقد أخطأ ، وأما قوله في بعض ألفاظ الروايات : ( فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم ) : فلا يدل على هذا بوجه من الوجوه ؛ بل الظاهر أنه طفل من طفليها الذين وصفهما بقوله :
( مثل اللؤلؤتين ) ، جاء إلى أمه مشفقا عليها فتلطخ بالدم ، والدليل على ذلك أن لفظ رواية الطبراني للحديث فيه : ( فَأَصْبَحَ طِفْلَيْهَا بَيْنَ رِجْلَيْهَا مُلَطَّخَيْنِ بِالدَّمِ ) – كذا بالياء : " طفليها " - ، وأيضا في لفظ رواية البيهقي : ( فَوَقَعَ طِفْلاَهَا بَيْنَ رِجْلَيْهَا مُتَضَمِّخَانِ بِالدَّمِ ) .
ويدل على ذلك : ما جاء في " سؤالات الآجري أبا داود السجستاني " ( ص 201 ) :
قال أبو داود : سمعت مصعبا الزبيري يقول : عبد الله بن يزيد الخطمي : ليس له صحبة ، قال : وهو الذي قتل الأعمى أمه ، وهو الطفل الذي سقط بين رجليها ، التي سبَّت النبي صلى الله عليه وسلم .
انتهى .
إذاً فليس هناك جنين مقتول ، ولا يمكن أن تأتي الشريعة بأخذ الجنين بجريرة أمه ، والله سبحانه وتعالى يقول : ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ، على أن اختلاف ألفاظ الحديث ورواياته ، ومجيئها مرسلة أحيانا عن عكرمة ، كما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في " الأموال " ( رقم 416 ) ، ونقد بعض الحفاظ لمرويات عثمان الشحام بوجود المناكير فيها ، كما قال يحيى القطان : تعرف وتنكر ، ولم يكن عندي بذاك ، وقال أبو أحمد الحاكم : لم يكن بالمتين عندهم . وقال الدارقطني : بصري يعتبر به : كل ذلك يوجب الشك والتوقف في بعض التفاصيل المذكورة في القصة ، لكنه لا يرقى إلى رد أصل الرواية ونفي قيام الحادثة ، فقد جاءت لها شواهد أخرى سبق ذكرها ، وقبلها أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين .
ثالثاً:
في هذه القصة دليل على العدل الذي كان المسلمون يعاملون به أهل الكتاب ، والذي جاءت به الشريعة رحمة للعالمين ، فحقوق اليهود المعاهدين مصونة محفوظة ، ولا يجوز التعرض لهم بشيء من الأذى والضرر ، لذلك لما وجد الناس يهودية مقتولة ضجوا ورفعوا أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعطاهم العهد والأمان ، ولم يكن يأخذ منهم الجزية ، فغضب وناشد المسلمين بالله تعالى أن يظهر من فعل تلك الفعلة ، لينظر في عقابه ويقضي في أمره ، ولكن لَمَّا عَلِمَ أنها نقضت العهد مرات ومرات ، بأذاها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووقوعها فيه ، حُرِمَت جميعَ حقوقها ، واستحقت حد القتل الذي توجبه الشريعة على كل من يسب النبي صلى الله عليه وسلم ، سواء كان مسلما أو ذميّاً أو معاهداً ، فإن التعرض لمقام الأنبياء كفر بالله العظيم ، ونقض لكل حرمة وحق وعهد ، وخيانة عظمى توجب أشد العقوبات .
انظر " أحكام أهل الذمة " ( 3 / 1398 ) ، وفي موقعنا جواب السؤال رقم : ( 22809 ) .
وأما أن " المختص بتوقيع حد الردة هو السلطان أو نائبه " ، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الإشكال ، فقال :
" يبقى أن يقال : الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو نائبه ؟ " ، ثم قال رحمه الله :
" و جوابه من و جوه :
أحدها : أن السيد له أن يقيم الحد على عبده ، بدليل قوله صلى الله عليه و سلم : ( أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ) [ رواه أحمد (736) وغيره ، وحسنه الأرناؤوط لغيره ، ومال الألباني إلى أن هذه الجملة من كلام علي ، كما في الإرواء (2325) ] ، و قوله : ( إذا زنت أمة أحدكم فليحدها ) [ رواه أبو داود (4470) وهو في الصحيحين بلفظ : " فليجلدها الحد " ] ، و لا أعلم خلافا بين فقهاء الحديث أن له أن يقيم عليه الحد ، مثل حد الزنا و القذف و الشرب ، ولا خلاف بين المسلمين أن له أن يعززه ، واختلفوا هل له أن يقيم عليه قتلا أو قطعا ، مثل قتله لردته ، أو لسبه النبي صلى الله عليه و سلم وقطعه للسرقة ؟ وفيه عن الإمام أحمد روايتان : إحداهما : يجوز ، وهو المنصوص عن الشافعي ، والأخرى : لا يجوز ، كأحد الوجهين لأصحاب الشافعي ، وهو قول مالك ، وقد صح عن ابن عمر أنه قطع يد عبد له سرق ، وصح عن حفصة أنها قتلت جارية لها اعترفت بالسحر ، وكان ذلك برأي ابن عمر ؛ فيكون الحديث حجة لمن يجوز للسيد أن يقيم الحد على عبده بعلمه مطلقا ...
الوجه الثاني : : أن ذلك أكثر ما فيه أنه افتئات على الإمام ، والإمام له أن يعفو عمن أقام حدا واجبا دونه .
الوجه الثالث : أن هذا ، وإن كان حدا ، فهو قتل حربي أيضا ؛ فصار بمنزلة قتل حربي تحتم قتله ، وهذا يجوز قتله لكل أحد ...
الوجه الرابع : أن مثل هذا قد وقع على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، مثل المنافق الذي قتله عمر بدون إذن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما لم يرض بحكمه ، فنزل القرآن بإقراره ، ومثل بنت مروان التي قتلها ذلك الرجل ، حتى سماه النبي صلى الله عليه وسلم ناصر الله ورسوله ؛ وذلك أن من وجب قتله لمعنى يكيد به الدين و يفسده ، ليس بمنزلة من قتل لأجل معصيته من زنا و نحوه . " انتهى من الصارم المسلول (285-286) .
والله أعلم
 

أسئلة متعلقة أخري
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي...