عنوان الفتوى : قصة الغرانيق
قصة الغرانيق المذكورة في تفسير سورة الحج هل ثبت منها شيء ؟
الحمد لله
أولا :
أصل هذه القصة حادثة وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة في بداية الدعوة ، أنه
حين أوحيت إليه سورة النجم قرأها على جمعٍ من المسلمين والمشركين ، فلما بلغ آخرَها
حيث يقول الله تعالى : ( أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ
وَلَا تَبْكُونَ . وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ . فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا )
النجم/59-62
سجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وسجد معه جميعُ مَن حضر من المسلمين والمشركين ،
إلا رجلين اثنين : أمية بن خلف ، والمطلب بن وداعة .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ بِالنَّجْمِ ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ
وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ )
رواه البخاري (1071)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( أَوَّلُ سُورَةٍ
أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ ( وَالنَّجْمِ ) قَالَ : فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ ، إِلاَّ رَجُلاً
رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ ، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ
ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا ، وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَف )
رواهالبخاري (3972) وأيضا برقم (4863) ورواه
مسلم (576)
ثانيا :
جاءت بعض الروايات تفسِّرُ سبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وسببَ
استجابتهم لأمر الله تعالى ، حاصلُها أن الشيطان ألقى في أثناء قراءته كلماتٍ على
لسان النبي صلى الله عليه وسلم فيها الثناء على آلهتهم ، وإثبات الشفاعة لها عند
الله ، وهذه الكلمات هي: " تلك الغرانيق العُلى ، وإن شفاعتهن لَتُرتَجَى " وأن
المشركين لما سمعوا ذلك فرحوا واطمأنوا وسجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم .
والغرانيق : جمع غرنوق : وهو طير أبيض طويل العنق . قال ابن الأنباري : " الغرانيق
: الذكور من الطير ، واحدها غِرْنَوْق وغِرْنَيْق ، سمي به لبياضه ، وقيل هو
الكُرْكيّ ، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقرّبهم من الله عز وجل ، وتشفع لهم إليه ،
فشبهت بالطيور التي تعلو وترتفع في السماء "
انتهى. لسان العرب (10/286)
قالوا : فكانت هذه القصة سبب نزول قوله سبحانه وتعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ
فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ
اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )
الحج/52
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا القول في "منهاج السنة النبوية" (2/243) :
" على المشهور عند السلف والخلف مِن أن ذلك جرى على لسانه ثم نسخه الله وأبطله "
انتهى
وبعد تتبع الآثار الواردة في هذه القصة ، تبين أن مجموع السلف الذين يُحكى عنهم هذا
القول يبلغ نحو ثلاثة عشر ، وتبين أنه لم يثبت بالسند الصحيح إلا عن خمسةٍ منهم ،
وهم : سعيد بن جبير ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، وأبو العالية ، وقتادة ،
والزهري .
أما الباقون فلا تصح نسبته إليهم ، لما في الأسانيد إليهم من ضعف ونكارة ، وهم :
ابن عباس ، وعروة بن الزبير ، ومحمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس ، وأبو صالح ،
والضحاك ، ومحمد بن فضالة ، والمطلب بن حنطب .
انظر تخريج هذه الآثار والحكم عليها في
رسالة الشيخ الألباني "نصب المجانيق" (10-34)
ثانيا :
إلا أن طائفة كبيرة من المحققين من أهل العلم ، نفوا وقوع هذه القصة ، ولم يأخذوا
بإثبات مَن ذكرها من السلف ، واستدلوا على ذلك بأن قالوا : مَن ذكرها مِن السلف لم
يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكروا مصادرهم للحادثة ، فدخل الشك فيها ،
وساعد عليه ما في ظاهرها من طعن في النبوة ، إذ كيف يُدخل الشيطان في الوحي كلماتِه
الباطلة ، مع أن الله تعالى حفظ وحيَه من التحريف والتبديل والزيادة ، وعَصَمَه من
الخطأ والزلل .
يقول القاضي عياض في "الشفا" (2/126) :
" فأما من جهة المعنى : فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم
، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة ، إمَّا مِن تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة
غير الله وهو كفر ، أو أن يتسوَّرَ عليه الشيطان ويشبِّهَ عليه القرآن حتى يجعل فيه
ما ليس منه ، ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه
جبريل عليه السلام ، وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم .
أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا - وذلك كفر - ، أو سهوا وهو
معصوم من هذا كله ، وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم من
جريان
الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدا ولا سهوا ، أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك مما
يلقى الشيطان ، أو يكون للشيطان عليه سبيل ، أو أن يتقول على الله لا عمدا ولا سهوا
ما لم ينزل عليه ، وقد قال الله تعالى : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل )
الآية
، وقال تعالى ( إذًا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات )
الآية" انتهى باختصار
.
وقد عد الشيخ الألباني في رسالته "نصب المجانيق" (46-48) أسماء عشرة من العلماء
المتقدمين والمتأخرين في نفي صحة هذه الحادثة ، أكثرها يؤكد نفي وجود السند المتصل
المرفوع بها ، ومنافاتها لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم .
ثالثا :
والمسألة فيها نوع اشتباه ، يصعب الجزم فيها بأمر ، ولكن يمكننا القول بأن الجزم
بنفي هذه الحادثة فيه نظر ، وأن اعتبارها منافية لأصول العقيدة ومهمات الدين فيه
نظر ، أيضا ، فقد صحت القصة من طريق جماعة من السلف مِن قولهم ، وهي وإن كانت مرسلة
، فكثرتها تبعث على الاطمئنان بوقوعها ، ولو كان فيها شيء مناقض لعصمة الوحي لَما
نطق بها كبار أئمة التابعين كسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم .
يقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (8/439) في تخريجه لهذه القصة :
" كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا ... - ثم نقل تضعيف ابن العربي والقاضي عياض
القصة ثم قال - : وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد ، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت
مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا ، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح ،
وهي مراسيل يَحتجُّ بمثلها مَن يحتجُّ بالمرسل ، وكذا من لا يحتج به ، لاعتضاد
بعضها ببعض " انتهى
.
وليس في القصة أي طعن في عصمة التبليغ والرسالة ، لأن النسخ والتصحيح جاء بوحي من
الله ، وسواء كان الخطأ من النبي صلى الله عليه وسلم أو بإيهام الشيطان على أسماع
المشركين ، فإن المآل واحد ، هو وقوع الحق وزهوق الباطل ، والإخلال بمقتضى الرسالة
لا يكون إلا باستمرار الباطل واختلاطه بكلام الله تعالى ، وذلك ما لم يكن ولن يكون
.
يقول شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (10/290) :
" وهذه العصمة الثابته للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة... فلا
يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين .
ولكن هل يصدر ما يستدركه الله فينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته ؟ هذا فيه
قولان : والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك .
والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله : "
تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى " وقالوا : إن هذا لم يثبت .
ومن علم أنه ثبت قال : هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول .
ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا ، وقالوا في قوله : ( إلا إذا تمنى ألقى
الشيطان في أمنيته ) هو حديث النفس .
وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف فقالوا : هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه
، والقرآن يدل عليه بقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا
نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ
اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ . لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي
شِقَاقٍ بَعِيدٍ . وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ
الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )
الحج/52-54
فقالوا : الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث ، والقرآن
يوافق ذلك ، فإن نسخ الله لما يُلقي الشيطان ، وإحكامه آياته ، إنما يكون لرفع ما
وقع في آياته ، وتمييز الحق من الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها ، وجعل ما ألقى
الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ، إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرا
يسمعه الناس لا باطنا في النفس ، والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ ، من جنس
الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ ، وهذا النوع أدل على صدق الرسول وبعده عن
الهوى من ذلك النوع ، فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه - وكلاهما من عند الله
وهو مصدق في ذلك - فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ ،
وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك ، كان أدل على اعتماده للصدق ، وقوله الحق
، وهذا كما قالت عائشة رضي الله عنها : ( لو كان محمد كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه
الآية : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ
وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) .
ألا ترى أن الذي يُعَظِّمُ نفسَه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ولو كان خطأ ،
فبيان الرسول أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان ، هو أدل على تحريه للصدق
وبراءته من الكذب ، وهذا هو المقصود بالرسالة ، فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه
وسلم ، ولهذا كان تكذيبه كفرا محضا بلا ريب "
انتهى
.
والخلاصة أن إثبات أصل القصة قول متجه ، وهو أقرب إلى التحقيق العلمي إن شاء الله .
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |